في مشهدٍ يوجِع الضمير الإنساني، شيّعت ساكنةُ مدينة جرادة جثامينَ ستةِ مهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، بينهم سيدتان، لفظوا أنفاسهم الأخيرة في وادٍ قرب تويسيت، بعد أن تجمّدوا من البرد القارس ونفدت منهم المؤونة والطاقة، وهم يقطعون طريقًا وعرًا نحو حلمٍ مجهول…
جاؤوا من عمق القارة السمراء بأجسادٍ مرهقة، وأرواحٍ مثقلةٍ بما لا يُقال، فسقطوا قبل أن يصلوا. لا وطن، لا حلم، ولا ذراع تحتضنهم. واليوم يُدفنون في جرادة، في قبورٍ بلا أسماء، كأنهم مرّوا على هذا العالم خِفافًا، ثم اختفوا بصمتٍ موجِع…
لكن الحقيقة لا تصمت طويلًا. فحين يُدفن إنسانٌ بلا هوية، لا يُدفن وحده، بل يُدفن معه سؤالٌ كبير: من المسؤول؟
ليست الطبيعة وحدها من قتلتهم، بل أوطانهم التي طاردتهم، وسياساتٌ عقيمة، وحكّامٌ أغلقوا الأبواب والنوافذ، فلم يتركوا لرعاياهم سوى منفذٍ واحد: الهروب، ولو نحو الموت…
إن الطريق نحو الضفة الأخرى لم يعد معبرًا جغرافيًا فحسب، بل أصبح رحلةً وجودية تشبه رهانَ الحياة على الموت. فحين تصبح الحياة اليومية شكلًا من أشكال الإعدام البطيء، يتحوّل الموت إلى احتمالٍ عادل…
لقد كتب عبد الرحمن منيف ذات وجع:
“المنفى الحقيقي ليس أن تكون خارج وطنك، بل أن يصبح الوطن خارجك.”
وهؤلاء، يا سادة، لم يموتوا لأنهم أرادوا الهروب… ماتوا لأن البقاء في بلدانهم صار مستحيلًا.
ألم يكن من الممكن أن تبني الدول مقاعدَ في المدارس بدل الحواجز على الحدود؟ وأن توفّر الحدَّ الأدنى من الكرامة بدل القمع؟
المأساة ليست في الموت وحده، بل في صمت العالم الذي لا يزال ينظر إلى إفريقيا كبقرةٍ حلوبٍ كبيرة، وفي اعتيادنا على مشاهد الجثث وكأنها لقطات من فيلمٍ رديء نعيد مشاهدته دون أن نرفّ.
تحيةٌ عالية لسكان مدينة جرادة، الذين بكوا الغرباء كأنهم من صلبهم، وأقاموا لهم جنازةً تليق بما تبقّى من إنسانيتنا.
ولعلّ تراب جرادة احتضنهم كما لم تحتضنهم أوطانهم.
وليظلّ رحيلهم علامةً فارقة، تذكّر أن الإنسان لا يموت فقط حين يتجمّد، بل حين يُنسى؛ حين يتحوّل إلى رقم، إلى خبرٍ عابر، إلى “أحدٍ ما” مات هناك …
