عاد جزء من الإعلام الإسباني، في سياق بحثه الدائم عن زوايا مثيرة لملف الصحراء المغربية، إلى طرح فرضية الوساطة القطرية، مستندًا إلى وقائع إنسانية تعود إلى مطلع الألفية الثالثة، ومحاولًا إسقاطها على واقع سياسي وإقليمي تغيّر جذريًا.
هذا التناول، الذي يغلب عليه الطابع التأويلي أكثر من التحليل الموضوعي، يعكس استمرار بعض المنابر الإسبانية في مقاربة القضية بمنطق الالتفاف على الحقائق الثابتة، بدل الانخراط في قراءة متوازنة تُراعي تطور الموقف الدولي، وتحولات ميزان القوى، وحسم المغرب لخياراته الاستراتيجية.
فبين الإثارة الصحفية والواقع الدبلوماسي، يبرز سؤال جوهري: هل الأمر أمام معطيات سياسية جديدة، أم أمام إعادة تدوير سرديات قديمة في قالب إعلامي جديد؟
قبل أن يرتبط اسم قطر بملفات الوساطة الكبرى في الدبلوماسية الدولية، كانت الدوحة قد بصمت على حضورها في واحد من أكثر نزاعات المغرب الكبير تعقيدًا وحساسية، وذلك مطلع الألفية الثالثة، حين لعبت دورًا إنسانيًا محضًا في تسهيل الإفراج عن أسرى حرب مغاربة كانوا محتجزين لدى ما يُسمّى بجبهة البوليساريو في مخيمات تندوف، فوق التراب الجزائري.
تلك العملية، التي تُوّجت في فبراير 2004 بعودة عشرات الجنود المغاربة إلى أرض الوطن عبر مدينة أكادير، لم تكن وساطة سياسية ولا مبادرة تفاوضية، بقدر ما كانت خطوة إنسانية أنهت فصلًا مؤلمًا من تداعيات نزاع إقليمي طال أمده. كما كشفت، في الآن ذاته، قدرة قطر على التحرك بهدوء داخل فضاءات معقدة تحكمها الحسابات الإقليمية والتجاذبات التاريخية، دون أن يترتب عن ذلك أي تغيير في طبيعة النزاع أو أطرافه.
غير أن تحويل هذا الحدث الإنساني المعزول إلى أرضية لوساطة سياسية راهنة، كما يوحي مقال نُشر في صحيفة إسبانية، يظل طرحًا انتقائيًا يفتقر إلى الأسس الواقعية، خاصة في ظل غياب أي طلب رسمي من الأطراف المعنية، وعلى رأسها المملكة المغربية، التي تُعد الطرف الأساسي والمعني الأول بأي مسار تفاوضي.
تنص المادة السابعة من الدستور القطري على تشجيع حل النزاعات بالطرق السلمية، وهو ما مكّن الدوحة من بناء صورة “الوسيط الهادئ” في عدد من الملفات الدولية، من غزة إلى أفغانستان، ومن اليمن إلى كولومبيا.
غير أن هذه المقاربة الدبلوماسية، مهما بلغت من المرونة، تبقى مشروطة بشرط جوهري لا يقبل التأويل: القبول الصريح لجميع الأطراف، وهو شرط غير متوفر إطلاقًا في ملف الصحراء المغربية.
وفي هذا السياق، جاء تأكيد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، ليضع حدًا لكل التكهنات، حين أوضح أن بلاده لم يُطلب منها أداء أي دور وساطة، لا بين المغرب والجزائر، ولا في قضية الصحراء، مشددًا على أن الدوحة تحترم سيادة الدول، وترى أن الخلافات تُحل إما بالحوار المباشر أو داخل إطار الأمم المتحدة.
وبعيدًا عن الطرح الاختزالي الذي يروّج له الخطاب الانفصالي وبعض المنابر الأوروبية، فإن نزاع الصحراء ليس نزاعًا بين “المغرب وسكان الصحراء”، بل هو نزاع إقليمي مفتعل، تتحمل الجزائر مسؤوليته السياسية والدبلوماسية الكاملة، وهو ما تُقرّ به قرارات مجلس الأمن التي تصفها صراحة بـ”الطرف المعني”، وليس مجرد “ملاحظ”.
المغرب، من جانبه، لم يكتفِ بتفكيك أطروحة الانفصال سياسيًا وقانونيًا، بل تقدم بمبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي، جاد وذي مصداقية، حظي بدعم دولي متزايد، وأُدرج بوضوح ضمن المسلسل الأممي، في مقابل أطروحة انفصالية أثبتت التجربة فشلها وعجزها عن إنتاج أي أفق عملي.
ومنذ 2019، لم تُعقد أي مفاوضات رسمية، رغم تعيين المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا، بسبب تعنت الأطراف الأخرى وغياب الإرادة السياسية الحقيقية لديها. وفي هذا السياق، يظل المسار الأممي هو الإطار الشرعي الوحيد لمعالجة النزاع، وليس المبادرات الظرفية أو الرهانات الجيوسياسية السريعة، سواء صدرت من واشنطن أو غيرها.
أما الحديث عن “اتفاق سلام سريع” بين المغرب والجزائر، كما ورد في بعض التصريحات الأمريكية، فيصطدم بحقيقة واضحة: المغرب ليس في نزاع حدودي مع الجزائر، بل يواجه مناورة سياسية إقليمية تستهدف وحدته الترابية واستقراره الاستراتيجي.
ورغم ما تتوفر عليه قطر من علاقات متوازنة مع المغرب والجزائر، ورأسمال دبلوماسي معتبر، فإن غياب الطلب الرسمي، وانعدام الحد الأدنى من الثقة بين الأطراف، وتعقيد الملف، يجعل من أي وساطة محتملة مجرد افتراض إعلامي أكثر منه مسارًا سياسيًا قابلًا للتحقق.
بل إن عددًا من الخبراء الدوليين يشككون أصلًا في جدوى أي وساطة خارج مظلة الأمم المتحدة، معتبرين أن النزاع لا يمكن حله دون احترام سيادة المغرب ووحدته الترابية، ووضع حد لاستغلال ملف الصحراء كورقة ضغط إقليمية.
14/12/2025