في زمنٍ تحوّلت فيه البحار من فضاءات مفتوحة إلى خرائط صراع مكتظّة بالمصالح والثروات، تجد إسبانيا نفسها محاصَرة بجبهات بحرية متعددة، لا تهدأ أمواجها ولا تستقر حدودها. فمن المحيط الأطلسي قبالة جزر الكناري، إلى مضيق جبل طارق، وصولاً إلى غرب المتوسط وجزر البليار، تتكاثر النزاعات البحرية، كاشفةً هشاشة الترتيبات القديمة، ودافعةً مدريد إلى مواجهة مباشرة مع جيرانها: المغرب، البرتغال، بريطانيا، والجزائر.
تحافظ إسبانيا على خلافات متواصلة حول ترسيم حدودها البحرية، ليس فقط مع المغرب، بل كذلك مع البرتغال والمملكة المتحدة والجزائر. ورغم هذا التعقيد الجغرافي، لا تتوفر مدريد سوى على اتفاق نهائي واحد لترسيم الحدود البحرية، وهو الاتفاق المبرم مع فرنسا في بحر كانتابريا، بينما تظل باقي الحدود البحرية رهينة التفاوض والتأجيل.
وتبرز أبرز بؤر التوتر في:
-منطقة جبل طارق مع المملكة المتحدة،
-جزر سلفاجيش مع البرتغال،
-توسيع الجزائر لمنطقتها الاقتصادية الخالصة باتجاه جزر البليار.
غير أن الخلاف مع المغرب يكتسي طابعًا خاصًا وحسّاسًا، لكونه يمس المنطقة الاقتصادية الخالصة قبالة جزر الكناري، حيث تتداخل الحسابات الجيوسياسية مع رهانات الثروة. فالمنطقة تختزن موارد معدنية استراتيجية، من بينها النيكل والكوبالت والنحاس، ما يجعلها محور شدٍّ وجذبٍ متصاعد.
وتُظهر المحادثات المغربية–الإسبانية حول ترسيم الحدود البحرية في المحيط الأطلسي أن النزاع لا يقتصر على الرباط وحدها، بل يتقاطع مع مصالح البرتغال وبريطانيا والجزائر، في مشهد بحري معقّد ومتعدد الأطراف.
وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (كونفيمار)، لا يجوز لأي دولة توسيع بحرها الإقليمي إلى ما بعد خط الوسط عندما تكون السواحل متقابلة أو متجاورة، إلا باتفاق صريح. غير أن تطبيق هذا المبدأ يصطدم، في الحالة الإسبانية، بتعقيد جغرافي فريد.
فإسبانيا دولة ذات امتداد قاري وجزري في قارتين، وترتبط بحدود بحرية مع ست دول: فرنسا، البرتغال، بريطانيا، إيطاليا، المغرب، والجزائر. ونتيجة لذلك، ما تزال عدة مناطق بحرية عالقة دون ترسيم نهائي.
ومن أبرزها:
-خليج الجزيرة الخضراء المرتبط بملف جبل طارق،
-إضافة إلى المدن والجزر والصخور المغربية المحتلة على الواجهة المتوسطية، مثل سبتة ومليلية المحتلتين، الجزر الجعفرية، النكور، صخرة بادس، وجزيرة ليلى.
وقد شكّلت المطالب الترابية المغربية بهذه المناطق، من منظور مدريد، عائقًا تقليديًا أمام إبرام اتفاقات نهائية، في حين تنظر الرباط إلى الملف باعتباره جزءًا لا يتجزأ من استكمال وحدتها الترابية وترسيخ سيادتها البحرية.
في مقابل هذا التشابك، لا تتوفر إسبانيا سوى على اتفاق مستقر واحد مع فرنسا، يعود إلى سنة 1856، وينظم الحدود في نهر بيداسوا، إضافة إلى اتفاق ثانٍ وُقّع سنة 1974 بباريس، يحدد البحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة في خليج بسكاي إلى حدود 12 ميلاً بحريًا.
ويؤكد الجيولوجي وأستاذ جامعة لاس پالماس، خوسي مانغاس، أن “إسبانيا ما تزال في حاجة إلى اتفاقات واضحة مع جيرانها لتحديد ملكية المياه بشكل نهائي”.
تخوض إسبانيا نزاعًا مع البرتغال حول جزر سلفاجيش جنوب ماديرا، حيث تعتبرها مدريد غير مأهولة ولا تخوّل منطقة اقتصادية خالصة، بينما تستند لشبونة إلى معاهدات تاريخية تعود إلى العصور الوسطى.
أما جبل طارق، فيبقى الملف الأكثر تعقيدًا وخطورة، إذ لا تعترف إسبانيا بالسيادة البريطانية على مياهه، باستثناء المياه الداخلية للميناء، في حين تصر لندن على امتلاك نطاق بحري محدود حول الصخرة. ويحذّر خبراء من خطر التصعيد نتيجة الاحتكاكات المتكررة بين الدوريات البحرية الإسبانية ونظيرتها في جبل طارق.
من جهتها، أقرت الجزائر سنة 2018 مرسومًا وسّعت بموجبه منطقتها الاقتصادية الخالصة، ما أدى إلى تداخلها مع مياه محمية كابريرا في جزر البليار. ورغم تبادل المذكرات والاحتجاجات الرسمية، تعطل الحوار بعد قرار إسبانيا سنة 2022 دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي للصحراء، ليُجمَّد ملف ترسيم المجالات البحرية بين مدريد والجزائر.
يكشف هذا الملف أن إسبانيا تعيش اليوم على وقع تعدد جبهات بحرية مفتوحة، في زمنٍ لم تعد فيه السيادة تُقاس باليابسة وحدها، بل بما تختزنه الأعماق من ثروات ونفوذ. ويبقى النزاع مع المغرب، خصوصًا في محيط جزر الكناري، جزءًا من إشكال أوسع مرتبط بإرث استعماري وحدود غير محسومة.
وفي مقابل هذا الارتباك، تواصل المقاربة المغربية ترسيخ منطق السيادة الهادئة، والدفاع عن الحقوق البحرية وفق القانون الدولي، بعيدًا عن سياسة فرض الأمر الواقع، في انتظار أن تهدأ أمواج السياسة… ويُعاد رسم البحر بميزان العدالة لا بخرائط القوة.
