تشهد الجبهة الجنوبية لإسبانيا تصعيدًا عسكريًا متدرجًا يعكس تحوّلًا عميقًا في عقيدتها الدفاعية، في سياق إقليمي متغيّر تُعاد فيه صياغة موازين القوة بهدوء. وبين خطاب “الردع الوقائي” وواقع الانتشار المكثف، يطفو سؤال جوهري: هل تُحصّن مدريد أمنها، أم تُدير مأزقًا تاريخيًا مرتبطًا بأراضٍ مغربية ما تزال خارج مسار تصفية الاستعمار؟
هذا التحول لا ينفصل عن بيئة أمنية جديدة تتقدّم فيها التكنولوجيا—الدرونز والذخائر الجوالة والدقة العالية—على حساب نماذج الردع الكلاسيكية، ما يضع أي انتشار عسكري تقليدي أمام اختبار الفعالية والشرعية معًا.
تُعد سبتة ومليلية المحتلتان العقدة الأكثر حساسية في التخطيط العسكري الإسباني. فالموقع المعزول وغياب العمق الاستراتيجي يفرضان وضعًا دفاعيًا دائمًا لا يسمح بالمناورة أو كسب الوقت. لهذا تحافظ مدريد على انتشار كثيف لقوات برية ثقيلة ووحدات نخبوية داخل فضاء حضري ضيق، في محاولة لفرض ردع ثابت.
وتشغّل أفواج الفرسان “مونتيسا” رقم 3 و“ألكانتارا” رقم 10 دبابات Leopard 2A4 وعربات Pizarro/VEC. كما تنتشر قوات الريغولاريس وألوية الفيلق الإسباني، مثل “دوق ألبا” في سبتة المحتلة و“غراند كابيتان” في مليلية السليبة، المتخصصة في القتال داخل المناطق الحضرية. غير أن الكثافة العسكرية داخل المدن، في زمن الحروب الذكية، باتت تُقرأ كعلامة قلق أكثر منها ضمانة أمن.
تعترف التقديرات العسكرية بأن التهديد لم يعد مدرعات تقليدية، بل الطائرات دون طيار والذخائر الجوالة. تعتمد الحماية الحالية في المدينتين المحتلتين على أنظمة قصيرة المدى:
-مدافع Oerlikon عيار 35/90 ملم
-صواريخ Mistral III (مدى 6–8 كلم)
لكن الغياب الدائم لمنظومات دفاع جوي متوسطة المدى يظل ثغرة حرجة. فـ“الفقاعة” الأوسع تعتمد على NASAMS المتمركزة في شبه الجزيرة، غير المنتشرة دائمًا تفاديًا للتصعيد، رغم جاهزية نشرها السريع عند الطوارئ—وهو ما يبرز فجوة بين الخطاب والواقع.
تشمل الثغور الصغرى جزرًا وصخورًا قبالة الساحل المغربي—الجزر الحعفرية، بادس، وصخرة النكور—تواصل إسبانيا التشبث بها رغم محدودية قيمتها العسكرية. هذه النقاط المعزولة تفتقر لمقومات الدفاع الذاتي في حال تصعيد حقيقي، ما يجعل الاحتفاظ بها مرتبطًا بالرمزية السياسية أكثر من الجدوى الميدانية.
وتدرك مدريد أن الدفاع عنها في مواجهة مفتوحة بالغ التعقيد، إن لم يكن مستحيلًا. قيمتها الأساسية سياسية: ورقة ضغط ورسالة سيادة شكلية، بينما تبقى الحقيقة أن الملفات المؤجلة لا تختفي، بل تعود بأثقال أكبر.
تُقدَّم جزر الكناري كدرع أطلسي ونقطة ارتكاز نحو الساحل الإفريقي. يحتضن الأرخبيل اللواء السادس عشر “كنارياس” (BRICAN XVI)، المكوَّن من وحدات مشاة ومدفعية ومهندسين، مع تمارين انتشار سريع بين الجزر. وفي ماي الماضي، أبرزت عملية إل ييرو تنسيقًا متقدمًا بين البر والجو والبحر وقدرة دعم سريعة حتى للجزر الصغيرة.
جويًا، تعتمد الحماية على يوروفايتر تايفون. ورغم أن Tranche 4 كانت مبرمجة للجزر، جرى توجيهها إلى ألباسيتي ومورون لتوحيد الأسطول، مقابل إرسال نسخ أقدم إلى الكناري—تبقى، وفق التقييم الإسباني، متفوقة على F-16 المغربية.
بحريًا، يظل الضعف النسبي قائمًا: لا فرقاطات صاروخية دائمة، بل سفن العمل البحري (BAM) المناسبة للتهديدات المحدودة. صحيح أن المنطقة تُعزَّز ظرفيًا بحاملة “خوان كارلوس الأول” أو الفرقاطة “ألفارو دي بازان” والغواصة S-81 “إسحاق بيرال”، لكن الحضور غير دائم.
يبقى مضيق جبل طارق مركز الثقل الدفاعي ونقطة تحكم في أحد أهم الممرات البحرية عالميًا. تراهن مدريد على مزيج التفوق الجوي والبحري وقدرات المدفعية الساحلية لفرض معادلة ردع، غير أن فعالية أي تحصين تبقى رهينة بوضوح الشرعية السياسية، لا العتاد وحده.
تكشف التعزيزات العسكرية الإسبانية عن قلق استراتيجي أكثر مما تعكس ثقة مطلقة. فالأمن الحقيقي لا يُبنى على تثبيت أوضاع استعمارية، بل على الاعتراف بالحقائق التاريخية وفتح مسارات سياسية شجاعة. أما الرهان على عسكرة الجنوب، فلن يكون سوى تأجيل لصوت السيادة… لا إسكاته.
22/12/2025