“دراسة روبير أمبروجي… المستشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني في قضايا الماء والجيولوجيا تكشف حقيقة الجفاف في المغرب”
يشهد المغرب في الأسابيع الأخيرة تساقطات مطرية مهمة بعثت الحياة في أوصال الأرض بعد عطشٍ طال، فأنعشت حقينات السدود وأعادت الأمل مجددًا إلى قلوب الفلاحين والمواطنين على حد سواء. غير أن هذا الفرح المشروع لا يجب أن يحجب سؤالًا جوهريًا يفرض نفسه بإلحاح: هل انتهى فعلًا “الجفاف العظيم”؟ أم أننا نعيش فقط هدنة مناخية عابرة قد تنقضي قبل أن يكتمل الاطمئنان؟
للإجابة بعيدًا عن تأثير اللحظة و”نشوة المطر”، لا بد من العودة إلى سنة 1995، حين نشرت أكاديمية المملكة المغربية دراسة علمية دقيقة ومقلقة في آن واحد، أنجزها الجيولوجي الفرنسي روبير أمبروجي، أول مدير عام لمكتب الماء بالمغرب، والذي لم يكن يقرأ الغيب بقدر ما كان يقرأ ذاكرة الأرض ذاتها.
اعتمدت الدراسة على منهج علمي رائد يقوم على قراءة ذاكرة الأشجار المعمرة، وخاصة أشجار الأرز في الأطلس المتوسط، من خلال علم حلقات النمو الشجري. فكل حلقة تحمل بصمة مناخ سنة كاملة: حلقات عريضة تعني وفرة المطر، وأخرى ضيقة تكشف سنوات الجفاف والإجهاد المائي. ومن خلال هذا الأرشيف الطبيعي الممتد لنحو ألف سنة وربطه بدورات النشاط الشمسي، توصّل أمبروجي إلى خلاصة صادمة: الجفاف في المغرب ليس حادثًا ظرفيًا ولا تذبذبًا عابرًا، بل إيقاع بنيوي متكرر تحكمه دورية مناخية واضحة عبر الزمن.
لكن الأخطر ليس في قراءة الماضي، بل في قدرة هذه الدراسة على استشراف المستقبل بدقة لافتة؛ إذ رسمت جدولًا زمنيًا توقعيًا ووضع أمبروجي تحذيرًا صارخًا عند الفترة ما بين 2023 و2024، معتبرًا إياها مرحلة “جفاف خطير متوقع”. وبعد ثلاثة عقود، جاءت الوقائع لتمنح هذه الدراسة مصداقية مضاعفة؛ فقد عاش المغرب بالفعل واحدة من أقسى موجات الإجهاد المائي في تاريخه الحديث في نفس الحدود الزمنية تقريبًا.
وقد يقول قائل إن الجفاف ظاهرة طبيعية اعتاد عليها المغرب عبر تاريخه، فلماذا كل هذا القلق؟ لكن هذا المنطق يتجاهل عاملًا حاسمًا: التغير المناخي العالمي، الذي جعل موجات الجفاف أطول وأشد قسوة، ورفع درجات الحرارة، وزاد معدلات التبخر، وقلّص قدرة المنظومات المائية على التعافي. وهكذا لم يعد الجفاف مجرد دورة طبيعية، بل تحول إلى أزمة مركّبة تتشابك فيها الطبيعة مع أثر الإنسان.
وهنا يطفو السؤال المؤلم: إذا كانت هذه المعطيات العلمية منشورة منذ سنة 1995 داخل أعلى مؤسسة فكرية وطنية، وتقول بوضوح إن البلاد ستواجه أزمة حادة في حدود سنة 2023، فلماذا لم تُبنَ السياسات المائية والفلاحية على أساسها؟ لماذا ظل تدبير الماء في المغرب محكومًا بمنطق رد الفعل بدل الفعل الاستباقي؟ ولماذا انتظرنا بلوغ ذروة الأزمة لنعلن البرامج الاستعجالية ونعبئ الميزانيات، بدل الاستثمار المبكر في التحلية، وإعادة استعمال المياه العادمة، وترشيد الزراعات المستنزفة للمخزون المائي؟
صحيح أن أمطار اليوم نعمة عظيمة وهدية ثمينة من السماء، لكنها لا تعني أبدًا أن صفحة “الجفاف العظيم” قد طُويت. فالأرز يقول كلمته، وذاكرة الأرض واضحة: الجفاف سيعود لأنه جزء من الهوية المناخية للمغرب. لذلك لم يعد السؤال: متى ستمطر السماء؟ بل أصبح: هل سنكون جاهزين عندما تتوقف عن الإمطار؟ أم سنعيد تدوير نفس دائرة الانتظار والارتجال والتدخل المتأخر؟
إن المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تأسيس سياسته المائية على أسس علمية صلبة، تجمع بين قراءة الماضي واستشراف المستقبل، لأن الأمن المائي لم يعد مجرد ملف تقني، بل قضية سيادية واستراتيجية تمس التنمية والاستقرار الاجتماعي والأمن الوطني.
المصدر: مبني على دراسة روبير أمبروجي لسنة 1995 المنشورة ضمن منشورات أكاديمية المملكة المغربية.
وللتذكير، كان روبير (فيليب) أمبروجي شخصية مرجعية في الهيدروجيولوجيا بالمغرب، ومسؤولًا سابقًا بالأمم المتحدة، وعضوًا في أكاديمية المملكة المغربية، ومستشارًا للملك الراحل الحسن الثاني في قضايا الماء والجيولوجيا.
