يشتد عود الأزمة ويتصلّب أكثر بين فرنسا والمغرب. البلدان الشريكان اللذان تحولا إلى خصمين أقرب إلى “عدوين”، تتنازعهم مصالح شتى ولكل منهما أوراق ضغط في معترك محكوم بالسياق السياسي والغاية الاستراتيجية. ففرنسا ماكرون تنفي وجود تصدع أو أزمة في علاقتها بالمملكة المغربية، تنفيه الوقائع وتكذبه المعطيات التي تشي بأن الهوّة اعمق من أزمة التأشيرات أو زيارة هنا أو هناك، بل تنفُذ إلى مسارب سياسية مشدودة شدا إلى “ساحة كبرى وبها لاعبون كُثر أقوياء”.
فرنسا التي أشارت أصابع اتهام مغربية إلى تورطها البيّن في تصويت البرلمان الأوروبي، في ما يشبه اللعب السياسي المستتر بقناع حقوق الإنسان وحرية الصحافة، للضغط على المغرب من خارج معترك الدبلوماسية. نفت باريس ذلك عبر المتحدثة الرسمية للخارجية الفرنسية، وأكدت بأن يد بلادها بيضاء من تصويت إدانة المغرب من طرف البرلمان الأوروبي، واتجهت إلى أبعد من ذلك بكثير عندما حاولت ايقاف ما ظنته تدهور العلاقات بين البلدين وعدم تركها لمزيد من التفاقم، مششدة على “عدم وجود أزمة مع الرباط”. ما حاولت فرنسا تحييده للغيوم الملبّدة فوق أجواء البلدين سرعان ما سيعود ويرسُم سوادا بينهما، إذ ردت المملكة على النفي الفرنسي والتهوين من حدة الأزمة بإلغاء اجتماعين هامين مع مسؤولين فرنسيين، في خطوة تعكس استمرار استياء الرباط من قرار البرلمان الأوروبي وانعكاس واضح لا لُبس فيه على حالة الأزمة التي وقعت في شباكها علاقات باريس والرباط، ويتعلق الإلغاء وفق ما ذكرته تقارير بزيارة نائب مدير شمال إفريقيا والشرق الأوسط في الدائرة العامة للتسليح في وزارة الدفاع الفرنسية، أوليفييه لوكوانت، الذي كان من المقرر أن يزور المملكة بين 23 و 24 يناير الجاري. كما ألغت الرباط انعقاد اللجنة الاستشارية المشتركة حول التعاون القضائي، التي كانت مقررة يومي 30 و31 من نفس الشهر.
لا جديد في الأزمة مع فرنسا بل ماضية إلى التشدد أكثر من أي وقت، فالتوصية، غير الملزمة، التي تبناها البرلمان الأوروبي ضد المغرب، لقيت إدانة قوية في الرباط، عبّر عنها تحديدا مجلسي البرلمان المغربي بـ”إعادة النظر” في علاقاته مع نظيره الأوروبي، منددا بـ”تدخل أجنبي” و”ابتزاز”، و”محاولات خطيرة للمساس بمصالح المغرب وصورته”.
“التدخل الأجنبي والابتزاز” كلمات وردتا في بلاغ الختامي للبرلمان الذي تلاه رئيسه رشيد الطالبي العلمي، ولهما ثقلهما ومراميهما السياسية، فسهام الاتهام تشير مباشرة إلى تورط شريك أوروبي في الإدانة، والحديث هنا عن فرنسا التي تتحاشى المواجهة مع المغرب، وتختار توظيف أساليب تصريف الأزمة عبر أدوات مؤسساتية وكواليس الاتحاد الأوروبي، لإحكام المغرب في ما تعتقده أنه دراع قد يوجعها. فالاتهام المغربي لفرنسا جاء للدوافع الواضحة التي جعلتها محط اتهام في خضم تجاذب خفي للأزمة الديبلوماسية بين الطرفين، وهي خطوة تحاول من خلالها باريس إظهار قوتها للمغرب في مرحلة هي غير مرتاحة على ما يبدو للدينامية الجديدة التي تشهدها شراكة المغرب مع الولايات المتحدة والصين، أو السياسية الكبرى التي انخرط فيها المغرب عبر تنويع الشركاء والمحاور والابتعاد قدر الإمكان من شراكات تقليدية محدودة الأفق.
ويظهر من خلال تطورات الأزمة، أن التصعيد المغربي يوضح جدية موقفه من فرنسا تجاه ضرورة خروجها بموقف واضح وصريح والابتعاد عن المنطقة الرمادية في ملف الصحراء، في مقابل ‘تهدئة الاوضاع’ من الجانب الفرنسي الذي استشعر أن المغرب ينزع شيئا فشيئا لبوس الشراكات التقليدية، خاصة في ظل دعم دولي للمغرب في أكبر قضاياه، والمتماشي مع خطابات الملك محمد السادس، وخاصة الخطاب الأخير في غشت الماضي، والذي جعل من قضية الصحراء مفتاح التعامل مع شركاء المملكة وطالب الشركاء بموقف واضح من القضية.
ولا يبدو أن العلاقات بين باريس والرباط قد يحدث فيها منعطف حاسم في ظل تشبث فرنسا بموقفها من ملف الصحراء وقربها الأكبر من الجزائر، وأن يلفح ذلك في تحريك المياه الآسنة مع المغرب الذي اتخذ مواقف أشد وحاسمة في علاقاته الخارجية منذ العام 2020، وفي ذلك ما قالته مجلة “جون أفريك” الفرنسية، كون “الأخطاء وسوء التفاهم يتنامى بين باريس والرباط”، مضيفة أنه “في مواجهة ما تعتبره مظاهر عداء من فرنسا، لم تعد السلطات المغربية تخفي أن العودة إلى الوضع الطبيعي ستكون صعبة”.
30/01/2023