الحسيمة – كواليس الريف :
في زمن أصبح فيه النقل الحضري فناً راقياً في بعض الدول، لا تزال مدينة الحسيمة تحتفظ بتراثها العتيق، وتُكرّم ساكنتها بإرث أثري متحرك يُعرف باسم “حافلات الحسيمة”، والتي تعود ملكيتها – ويا للمصادفة ! – إلى البرلماني التجمعي بوطاهر البوطاهري، صاحب الوعود الذهبية التي تذوب كلما اقتربت من حرارة الواقع .
الحافلات التي من المفترض أن تنقل المواطنين من إمزورن إلى الحسيمة حتى بني بوعياش مرورا بأجدير ، تقوم فعلياً بنقلهم … إلى أقصى درجات المعاناة ، بهياكل صدئة توحي بأن الحافلة شاركت في الحرب العالمية الثانية، وكراسي معدنية تعطي للراكب إحساسًا حيًا بما تعنيه العبارة الشهيرة “جلسة على الجمر” ، أصبحت هذه المركبات رمزاً للفشل والوعود المنسية وسلطة الرقابة الفاسدة .
ولأن البوطاهري كان قد وعد الساكنة بأسطول حديث، فقد أوفى بوعده على طريقته الخاصة : كل حافلة جديدة تأتي مزودة بتقنيات متقدمة في… جمع الغبار ! أما الزجاج ؟ فقد تم استبداله بقطع حديدية سوداء لخلق تجربة ركوب مليئة بالغموض والانفصال التام عن العالم الخارجي … رؤية الخارج ؟ رفاهية لا تستحقها الساكنة طبعاً.
وفي عرض مستمر لما يشبه أفلام الرعب، تتوقف هذه الحافلات في منتصف الطريق، تئنّ ميكانيكياً، وتعود للحياة بأعجوبة ميكانيكية لا تقل عن خرافات ألف ليلة وليلة … هذا إذا لم تتسبب في حادثة جديدة تضاف إلى سجل “صناديق الموت”، كما أطلق عليها المواطنون الذين يبدو أنهم كتب عليهم خوض مغامرات يومية لا تقل تشويقًا عن ألعاب السيرك.
ورغم تزايد المطالب بتجديد هذا الكابوس المتنقل أو فتح المجال أمام شركات تحترم آدمية الراكب، تواصل الجهات المعنية الصمت ، ربما في انتظار أن تتحول الحافلات فعليًا إلى متاحف متنقلة… لشاهد حي على زمن الوعود الكاذبة.
ليبقى السؤال معلقًا في الهواء – مثل أبواب هذه الحافلات التي لا تُغلق – : متى يستحق المواطن وسيلة نقل تحفظ كرامته بدل أن تفرمها بين صرير الحديد واهتزازات الخراب؟
— صور مرعبة من داخل حافلات النقل الحضري بالحسيمة :