في مغرب اليوم، حيث تختلط الأدوار وتغيب الحدود بين الوظائف والمهام، تبرز ظاهرة غريبة تستحق وقفة تأمل وتحقيق جاد: رجال تعليم، يفترض أنهم معلمو الأجيال، يتحولون في رمشة عين إلى “صحافيين”، لكن من طينة هجينة لا صلة لها بأخلاقيات المهنة أو ضوابطها.
إنهم ليسوا فاعلين إعلاميين بالمعنى المهني، بل مقاولون في “الخدمة الإعلامية الموازية”، يمارسون الكتابة كما يُمارَس السمسرة، ويقتاتون من مقايضة الأقلام بالمصالح.بحيث تحول إحدى عشر رجل تعليم تركوا أقسامهم إلى مراسلين صحافيين في غفلة من الوزير .
هؤلاء القادمون من حجرات الدرس، لم يُعرف لهم يومًا باعٌ في الصحافة الجادة، ولا راكموا تجربةً تُذكر في التحرير أو التحقيق، بل اكتفوا بارتداء جبة “المراسل” في فضاءات افتراضية، قبل أن يتحولوا إلى مخبرين معلنين، ثم إلى وسطاء بين السلطة والشارع، وبين المال والإعلام. صعدوا بسرعة مريبة على سلالم التأثير، ليس استنادًا إلى جودة ما يكتبون، بل بفضل قدرتهم على “تنظيم اللقاءات”، وتصفية الحسابات، وبيع الذمم المغلفة في هيئة مقالات.
بعضهم صار يحمل لقبًا لا يخجل منه: “القوّاد الصحفي”، تسمية يُردّدها زملاؤه خلف الكواليس، لكنها تعكس حقيقة الدور: لا يكتفي بالنشر، بل يفتح الأبواب الخلفية للمتنفذين، ويهيئ اللقاءات السرية، ويكتب ما يُملى عليه، مقابل خدمات تتراوح بين الترقية المهنية والتسهيلات الإدارية، مرورًا بصفقات لا يعلمها إلا من اكتوى بها.
هؤلاء لا يُمارسون الصحافة بقدر ما يُسيئون إليها، يشوّهون صورتها، ويسيّجون فضاءها بالتفاهة والارتزاق. يضعون أنفسهم في موقع السلطة الرابعة، بينما هم أدوات طيّعة في يد من يدفع أو يهدد … يسوّقون الوهم عبر تدوينات و”أعمدة” مليئة بالاتهامات أو المديح المجاني، ويقدمون أنفسهم كـ”صناع رأي”، وهم في الواقع مجرد صدى لرغبات من يستعملهم لتحقيق أجندات محلية أو شخصية.
النتيجة : مشهد إعلامي مختل، تذوب فيه المعايير، ويتحول فيه المعلم إلى ناشر إشاعة، والوسيط إلى “ناقد”، والانتهازي إلى “فاعل جمعوي” أو “مدوّن مؤثر”، وبينما تتراجع مهنة الصحافة في نظر الجمهور، يزداد هؤلاء تضخمًا في التأثير، وكأن الرداءة قررت أن تمنحهم صكوك الشرعية.
السؤال الجوهري إذًا: كيف تسلّل هؤلاء إلى المجال الإعلامي دون رقيب؟ وهل باتت الصحافة مرتعًا سهلاً لكل من ضاق به الأفق في قطاعه الأصلي؟ ثم ما مسؤولية المؤسسات، سواء التربوية أو الإعلامية، في وقف هذا الانفلات؟
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد نقد لحالات فردية، بل بوصف ظاهرة تهدد بنية الإعلام ومكانة التعليم معًا. فحين يتحول المعلم إلى تاجر مقالات، وينحدر الإعلام إلى أداة تصفية حسابات، فإننا نكون أمام ديمقراطية الجهل، لا حرية التعبير، وأمام سلطة التفاهة، لا السلطة الرابعة.
إن إعادة الاعتبار للصحافة تقتضي غربلة هذا المجال من كل طارئ ومتطفل، تمامًا كما يحتاج التعليم إلى تطهير نفسه من محترفي التسلل والانتهاز. وقد يكون الوزير المقبل، في كل من قطاعي التعليم والإعلام، مطالبًا ليس فقط بإصلاح المنظومة، بل بكشف الأقنعة .
12/05/2025