في مشهد يكاد يُشبه صرخة داخل قاعة مغلقة، وجّه خوان خوسيه إمبروذا، رئيس ما يُعرف بالحكومة المحلية لمليلية المحتلة، انتقادات لاذعة إلى الحكومة المركزية الإسبانية بقيادة بيدرو سانشيز، متهمًا إياها بـ”التخلي الممنهج” عن المدينة وتركها تصارع مصيرها في عزلة خانقة، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
وجاءت مداخلة إمبروضا خلال مؤتمر رؤساء الأقاليم بحضور سانشيز نفسه، حيث تحدّث بنبرة لا تخلو من التوتر، عن أزمة عميقة متعددة الأبعاد، تعيشها مليلية. مدينة، ورغم بقائها تحت الإدارة الإسبانية، إلا أن مظاهر التهميش الصارخة تُلقي بظلالها على النوايا الحقيقية لمدريد، وتُفضح ارتباكًا مزمنًا في التعاطي مع واقعها كمنطقة لا تنتمي لا جغرافيًا ولا ديمغرافيًا لـ”الوطن الأم”.
بلغة مباشرة، كشف إمبروذا عن واقع بائس: من الصحة والتعليم إلى النقل والاقتصاد، كل شيء في مليلية يشير إلى مدينة تنزلق نحو هاوية النسيان. مدرج المطار صار غير صالح لمتطلبات النقل العصري، وأسعار الرحلات الداخلية تصل أحيانًا إلى 800 يورو، أي أكثر من كلفة تذكرة إلى نيويورك أو باريس. وكأن المدينة على كوكب آخر.
القطاع الصحي ليس أفضل حالًا. فالمرضى يُجبرون على مغادرة المدينة جوًا لتلقّي أبسط العلاجات، بسبب غياب التجهيزات ونقص مهول في الأطباء، الذين يغادرون بدورهم بحثًا عن أجور وحوافز لا توفرها مليلية. مدينة داخل التراب الإسباني، لكنها خارج دائرة اهتمام الدولة.
من الرسائل الصريحة التي وجهها إمبروضا أن الحكومة الإسبانية تعتمد سياسة الكيل بمكيالين. ففي حين تنعم أقاليم مثل كتالونيا والباسك بإعفاءات ضريبية ودعم سخي، تُجبر مليلية على دفع ديونها مسبقًا، وهو ما يحرُمها من إمكانيات استثمارية وتنموية حيوية، كانت كفيلة ببناء مئات الوحدات السكنية وتخفيف الضغط الاجتماعي الخانق.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن البعد المغربي. فمنذ قرار المغرب سنة 2018 بإغلاق معبر بني أنصار وإيقاف التهريب المعيشي، انهار ما يقارب 60% من اقتصاد المدينة، في خطوة سيادية هدفها إنهاء اقتصاد الظل وتعزيز النظام القانوني المنظّم. ومع أن الخطوة أوجعت مليلية، إلا أنها عبّرت عن إرادة مغربية واضحة في تغيير قواعد اللعبة.
وفيما يخص ملف القاصرين الأجانب، أو بالأحرى القاصرين المغاربة، فقد عبّر إمبروضا عن استياء شديد من غياب الدعم المركزي في هذا الملف، مؤكدًا أن المدينة تتحمّل أعباءً تفوق طاقتها. لكن المتلقي لا يحتاج كثير ذكاء ليدرك أن المسؤولية الحقيقية لا تقع على عاتق القاصرين، بل على عاتق دولة اختارت أن تُبقي المدينة ورقة ضغط سياسية لا أكثر.
ورغم الحدة في لهجته، لم يُخف إمبروذا قناعته بأن اجتماعات من هذا النوع ليست سوى مناسبات لالتقاط الصور وبثّ التصريحات. فبيدرو سانشيز خرج منها بمظهر رجل الدولة الحاضر، فيما خرجت مليلية كما دخلت: منسية، مهمَّشة، ومعلّقة بين هوية لا تعترف بها، وواقع يرفض الاعتراف بها.
بالنسبة للمغرب، فإن مثل هذه التصريحات لا تزيد إلا من تعزيز قناعة راسخة: أن مليلية، شأنها شأن سبتة، لم تعد تحظى بذات القيمة في الحسابات الاستراتيجية لمدريد. ربما لأن الاستثمار في المدينتين لا يدرّ أصواتًا انتخابية، أو لأن الدولة الإسبانية تعبت من الدفاع عن “إسبانية” جغرافيا لا تُشبهها ولا تُشبهها.
حين تصبح مليلية مشكلة بلا حل… إلا إذا جاء الفرج من الرباط!
في انتظار “خطة إنقاذ” إسبانية تبدو بعيدة المنال، قد يكون من الأنسب أن تضع مليلية المحتلة لافتة على أبوابها تُعلن: “مغلقة مؤقتًا بسبب إهمال مركزي… الرجاء التوجه إلى أقرب مكتب مغربي للاستفسار عن مستقبل المدينة”.
فربما، حينها فقط، تدرك مدريد أن المدن لا تُدار بالشعارات، ولا تُحمى بالأعلام… بل بالكرامة، والانتماء، والسيادة الحقيقية.