في مشهد تكرر حد الرعب، ودّعت الحدود الجنوبية للمغرب فصلًا جديدًا من فصول المأساة: عبد العالي البلدي، شاب مغربي لم يتجاوز الثالثة والعشرين، لفظ البحر جثته عند تخوم سبتة المحتلة، بعدما غامر بآخر ما يملك — حياته — في محاولة للعبور سباحةً نحو وهمٍ اسمه “الأمل”.
كان يرتدي ملابس مدنية ويحمل طوق نجاة رخيصًا، في مشهد بات مألوفًا لدى فرق الإنقاذ الإسبانية. لكن هذه المرة، لم تكن جثة بلا اسم. فقد ساعدت الوثائق التي كانت بحوزته السلطات على تحديد هويته، ليُعاد جثمانه اليوم إلى مسقط رأسه في إقليم الحسيمة، حيث وُوري الثرى وسط دموع الأهل وصمت الوطن.
في منطقة حدودية تُدفن فيها الأجساد غالبًا دون هوية، نجا عبد العلي من النسيان. بينما يرقد غيره — من مجهولي الأسماء — في مقبرة سيدي مبارك، كأنهم لم يمرّوا يومًا من هنا. وحدها هذه “المصادفة الورقية” أنقذت اسمه من أن يُمحى كغيره ممن اختفوا بين أمواج المتوسط.
عبد العلي، الذي احتفل بعيد ميلاده الأخير في فبراير، لم يكن لصًّا أو متمردًا أو هاربًا من العدالة. كان فقط شابًا يبحث عن فرصة — أو حتى وهْمِها — عبر “الطريق البحري”، ذلك الممر المعروف لدى الحالمين القادمين من المغرب والجزائر. لكنه لم يجد سوى نهايته… تحت صخرة تُدعى “ديسناريغادو”.
وحدات الغوص التابعة للحرس المدني، مدعومة بمخبر الطب الشرعي، بدأت إجراءات التحقيق كما تفعل في كل حالة مماثلة: بحثٌ عن الاسم، لا عن السبب. في سبتة، لا أحد يسأل: لماذا رمى نفسه في البحر؟ بل فقط: من يكون؟ وما إن يُعرَف، حتى تُطوى الصفحة وكأن كل شيء عاد إلى مكانه… إلا صاحب الحلم.
سُجّلت منذ مطلع السنة خمس عشرة وفاة مماثلة، معظمها خلال ليالٍ كثيفة الضباب، حين يختلط السكون بالخوف، وتغيب الرؤية عن رادارات الحرس كما عن ضمائر المسؤولين. هناك، في تلك العتمة، تنطفئ الأسماء وتتحوّل الأمواج إلى حفّاري قبور… لا شواهد عليها.
عبد العلي لم يكن مجرمًا، لم يحمل سلاحًا، لم يهدد أحدًا. كل ما فعله أنه صدّق أن وراء السياج أمل، وربما حياة بكرامة. لكن البحر كان أسرع من الوهم، وابتلعه دون استئذان.
في نهاية المطاف، ربما كان عبد العلي محظوظًا — على طريقته — أن يُدفن باسمه، لا برقم. أما الحكاية، فهي مستمرة… بانتظار اسم جديد، وضحية جديدة، وخبر جديد على هامش نشرات المساء.
08/07/2025