في تحليل لاذع نشرته صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية، تحوّلت الجزائر إلى «نموذج دراسي» مثالي لنظام استبدادي متخلف يعيش على فتات أسطورة قديمة، ويصرّ على تسويقها رغم أن العالم تجاوزه بعقود. المقال لم يكن تقريرًا مملًا بالأرقام، بل «صفعة أنيقة» تكشف هشاشة سلطة ما زالت تتوهم أن الشعارات وحدها تصنع لها مكانًا على خريطة القوى المؤثرة.
قبل ستين عامًا، كانت الجزائر تهزّ عروش الاستعمار وتلهم ثوّار العالم من هانوي إلى هافانا. اليوم؟ لا شيء سوى شعارات مؤرشفة وبيانات نارية لا يهتم بها أحد سوى كتائب الإعلام الرسمي. والنتيجة: عواصم القرار الكبرى ـ باريس، واشنطن، لندن ـ تتبادل رسائل «الإجماع» على تجاوز الدور الجزائري وكأنه لم يكن يومًا. وكما وصف ريكاردو فابياني من مجموعة الأزمات الدولية: «تحوّلت الجزائر من لاعب إقليمي إلى متفرّج يلوّح بخطاب أصفر ورثه عن الستينيات».
أما عن الاقتصاد، فحدّث ولا حرج! دولة غنية بثروات جوفية، لكنها تدار بنفس منطق «برميل اليوم يُطعم غدًا». لا صناعة حقيقية، لا تكنولوجيا، لا جذب لرؤوس الأموال… فقط نفط وغاز وأدعية كي لا تنخفض الأسعار. الأسوأ أن أنبوب الغاز النيجيري–المغربي يزحف نحو أوروبا بهدوء يهدد بأن يغلق صنبور الضغط الوحيد الذي تلوّح به الجزائر كلما ضاقت بها الدوائر.
وبدل أن تبحث السلطة عن شركاء أو مشاريع تخرج بها من قفص الريع، لا تجد حرجًا في مهاجمة «الدويلات المصطنعة» التي لا تفعل سوى حصد الاستثمارات وتوقيع الصفقات عبر القارات!
رغم كل التحولات، ما يزال النظام الجزائري متمسكًا بـ«الورقة الصحراوية» وكأنها العصا السحرية التي ستفتح له أبواب النفوذ والشرعية. فاينانشيال تايمز ترى بوضوح: ما كان بالأمس ورقة قوة صار اليوم بطاقة عبور مجانية إلى عزلة بلا مقابل. العالم تغيّر والواقعية السياسية أصبحت عملة العصر… إلّا عند جنرالات العاصمة الذين ما زالوا يكتبون خطاباتهم بخط يد بارد على ورق أصفر.
حتى الحلفاء التاريخيون ملّوا المشهد. فرنسا ـ التي لطالما تباهت الجزائر بصداقتها أو خصومتها حسب المزاج ـ أغلقت الملف بالكامل. من استدعاء السفراء إلى تجميد التعاون الأمني، ثم اعتراف باريس بسيادة المغرب على صحرائه، كل ذلك أوصل الرسالة بلا مواربة: «اللعب انتهى». أخطر ما في الأمر؟ التهديد الفرنسي بإعادة النظر في اتفاق 1968 الذي سهّل على ملايين الجزائريين التنقل إلى الضفة الأخرى… امتياز إن سقط سيكشف ظهر السلطة ويفتح جبهة غضب داخلي من العيار الثقيل.
في النهاية، تقول فاينانشيال تايمز ما يعلمه الجميع: الجزائر تُدار بمنطق «أيام الثورة» في زمن تحكمه لغة المصالح والتحالفات الذكية. خصومها يتقدّمون خطوة تلو الأخرى، وحلفاؤها يلوّحون لها من بعيد ويغادرون واحدًا تلو الآخر. وبرغم ذلك، تصرّ السلطة على بث «أناشيد الماضي» وكأنها تملك رفاهية الوقت.
يبقى السؤال هنا: هل يملك النظام شجاعة رفع يده عن مكبر الصوت ليلتقط إشارات العصر؟ أم سيظل يصرخ في صحراء دبلوماسية لا يسمع صوته فيها أحد؟
الإجابة للأسف ليست سرًا: التاريخ وحده لا يحمي من السقوط إذا تحوّل إلى نشيد بلا جمهور. والجزائر اليوم مثال صارخ على كيف تتحوّل المنارة إلى جزيرة معزولة حين ترفض مصافحة الزمن.
ويبقى المشهد كما هو: نظام يرفع قبضته في وجه الفراغ، يهتف وحيدًا بشعارات لم يعد أحد يصدّقها، ويُهدر ما تبقّى من أوراقه على موائد لم يعد أحد يدعوه إليها أصلًا. وفيما تتحرك خرائط النفوذ والتحالفات بسرعة الضوء، يصرّ جنرالات الجزائر على البقاء في مقاعد الانتظار… يلوّحون بتذاكر سفر منتهية الصلاحية، ويغنون وحدهم في صحراء دبلوماسية لا صدى فيها سوى لأصواتهم.
ربما سيكتشفون يومًا أن الثورة لا تعيش من القصائد، وأن النفط لا يغفر العناد، وأن العالم لا ينتظر من يتأخر عنه نصف قرن. حتى ذلك الحين… فليرفعوا شعاراتهم عاليًا، وليغنّوا وحدهم قدر ما يشاؤون — فالتاريخ لا يرحم من يتوهّم أن الماضي يمكنه أن يفاوض الحاضر!
12/07/2025