في ذكرى مرور 23 سنة على أزمة جزيرة ليلى (پريخيل) سنة 2002، عادت الصحافة الإسبانية لتقليب جراحها القديمة وتسليط الضوء على واحد من أكثر الملفات إيلامًا في تاريخ العلاقات المغربية-الإسبانية. ملف يكشف أن صخرة مهجورة صغيرة قادرة على أن تُربك حكومة كاملة، وتكشف عمق الهشاشة السيادية لدى دولة تدّعي امتلاكها لـ”الضفة الجنوبية”.
الصحافية الإسبانية أنخليس إسكريبا، وفي تقرير موسّع نشرته جريدة El Mundo، استعادت لحظة الهلع الإسباني حين نزل عناصر من الدرك الملكي المغربي على جزيرة بريخيل. وبين السطور، لم تُخفِ الصحافية أن ما حدث لم يكن عبثياً، بل تحرك ذكي محسوب لتكسير طوق الصمت حول الثغور المحتلة، وتحريك مياه راكدة تخشى مدريد مجرد الاقتراب منها.
الرئيس الإسباني آنذاك، خوسي ماريا أثنار، والذي تصفه بعض الأوساط اليوم بـ”الدب المغرور” الذي كان يعاني من جنون العظمة، تعامل مع التحرك المغربي وكأن مدريد تواجه غزوًا عسكريًا، بينما الحقيقة أن ما أرعبهم لم يكن سوى عملية رمزية، لكنها مؤلمة، لأنها ضربت في العمق: مشروعية الاحتلال.
في 11 يوليوز 2002، وطأت أقدام المغاربة صخرة غير مأهولة لا تساوي شيئًا في الجغرافيا العسكرية، لكنها تساوي الكثير في المعنى السياسي. وبينما كان العالم يغطّ في سباته الصيفي، كانت مدريد تستنفر طائراتها، وتستدعي دعم الناتو، وتطالب واشنطن بالتدخل.. لمواجهة من؟ دركيّين مغاربة على صخرة في البحر.
وتحت ذريعة حماية “وحدة الأراضي الإسبانية”، ردّت مدريد بعملية عسكرية سُمّيت بـ”روميو-سييرا” استعادت بها الصخرة مؤقتًا، لكنّها خسرت الكثير من ماء وجهها في ميزان الجغرافيا السياسية. فالذي هُزم فعليًا لم يكن المغرب، بل الأسطورة الإسبانية القائلة بأن “كل شيء على هذه الأرض قد استُعمر وانتهى”.
في الكواليس، كانت واشنطن تمسك العصا من الوسط. حاولت تهدئة المغرب، لكنها في الوقت نفسه دعمت الموقف الإسباني بتصريحات باردة. أما فرنسا، فقد خرج منها ما هو أبلغ: جاك شيراك، رئيسها في تلك الفترة، لم يتردد في الإشارة لأثنار بأن “الأفضل أن تسلموا سبتة ومليلية وتنتهوا من هذه المهزلة”، كما نقلت عنه صحف إسبانية. عبارة أحرقت كبرياء مدريد، وأيقظت فيها كوابيس المستقبل.
والأكثر إثارة، أن الوثائق الاستخباراتية الإسبانية نفسها، كما تشير إسكريبا، تؤكد أن التحرك المغربي لم يكن اعتباطيًا، بل خطوة مدروسة لاختبار مدى جدية المجتمع الدولي في التعامل مع الاحتلال الإسباني للمناطق المغربية، وكأن الرباط قالت لهم: “جرّبوا صبرنا، وسترون”.
“أنتم تملكون الساعة، ونحن نملك الوقت” — جملة ترددها الدبلوماسية المغربية وتلخّص كل شيء. صبرٌ مغربيٌ طويل، مبني على شرعية التاريخ والجغرافيا، مقابل ارتباك إسباني قائم على منطق الهيمنة ورفض الاعتراف بالمتغيرات. فالرباط لم تعد دولة تطلب رضا الجار، بل قوة إقليمية تفرض كلمتها بلغة واضحة: الاستعمار لم يعُد صالحًا للاستخدام.
ومع كل تحرك مغربي جديد — سواء في الصحراء، أو في تعزيز العلاقات الإفريقية، أو في تموقعه الأطلسي — يتقلص هامش المناورة أمام مدريد، التي تجد نفسها محشورة في زاوية ضيقة، كلما ارتفعت نبرة السيادة المغربية.
ما تسميه مدريد “استفزازًا” هو في نظر الرباط تصحيح لمسار التاريخ. وما تسميه إسبانيا “ردًا سياديًا مشروعًا”، يراه المغاربة ارتعاشًا عصبيًا من ماضٍ استعماريٍ لم يُدفن بعد. جزيرة بريخيل كانت مجرد بروفة. مجرد “صفعة صغيرة” في سياق طويل من استعادة الحقوق. أما ما هو قادم، فربما سيجعل مدريد تشتاق إلى أيام بريخيل.
15/07/2025