أقدمت حكومة سانشيز، عبر وزارة دفاعها، على سحب العلم الإسباني من جزيرتي «البر» و«البحر» قبالة سواحل الحسيمة، وكأنها تزيل لافتة احتلال عفا عليها الزمن. خطوةٌ تمّت في غفلة من ضجيج الرأي العام الإسباني، ولم تحظَ حتى ببيان تبرير أو محاولة تعزية سياسية تحفظ ماء وجه «السيادة» التي طالما تغنّت بها مدريد فوق صخور مغربية مهجورة تحرسها الرياح أكثر مما يحرسها جنودها.
الخبر الذي نقلته صحف الجارة الشمالية، وفي مقدمتها La Razón جاء ليؤكّد ما لا تريد إسبانيا الاعتراف به صراحة: أن زمن الثغور والبيارق المعلقة فوق الحجارة قد ولّى، وأن رفع الراية في قلب أرض مغربية لم يعد سوى ترفٍ استعماري يقتات على وهم مجدٍ قديم. هكذا تحرّرت جزيرتا «Islote de Tierra» و«Islote de Mar» من قماش احتلال ظلّ يرفرف ليغطي حقيقة فارغة عنوانها «السيادة»!
وسط صمت رسمي مريب في مدريد، يتباكى بعض جنرالات «الطموح الإمبراطوري» على شاشات الأخبار: كيف أُزيل العلم دون «إذن»؟ وكيف أُطفئت رمزية كنا نلوّح بها في وجه الجغرافيا والتاريخ؟ والأطرف أن بعض الأصوات تحاول تجميل القرار باعتباره «بادرة تهدئة» مع المغرب، وكأن شمس الريف المغربي كانت بحاجة إلى ظلّ علم أجنبي ليكتمل مشهدها البحري!
ومن لا يذكر مشهد «جزيرة ليلى» سنة 2002؟ حين أصرت مدريد على إعادة إنتاج سردية الإمبراطورية بحفنة من الجنود لطرد بضع عناصر من الدرك المغربي رفعوا علم بلادهم فوق صخرة تقضمها الأمواج أكثر مما تقضمها السياسة. حينها سمّت مدريد هجومها «عملية روميو سييرا» لتضفي عليه بعض «البطولة»… وها هي اليوم تزيل العلم في صمت، كمن يطوي صفحة خجولة من كتاب قديم، خشية إعادة تأجيج ذاكرة بريخيل التي كشفت هشاشة أوراقها.
والغريب أن الرباط، كعادتها، لم تكلّف نفسها عناء التعليق، لأن الوقائع على الأرض أبلغ من خطابات مدريد المتكررة عن «الثغور» الموروثة من زمن البارود والأساطيل. وما لم تفهمه إسبانيا بعدُ أن البحر لا يعترف بالأعلام الغريبة، وأن الجغرافيا تعرف أبناءها حتى لو غابت البيانات.
ومع ذلك، لا يزال بعض المتوجّسين في الداخل الإسباني يرون في هذا الإجراء «تنازلًا سياديًا» ستدفع مدريد ثمنه لاحقًا في ملفات أكبر من مجرّد جزيرتين صخريتين يراهما أبناء الحسيمة جزءًا من موجهم، لا من خريطة إسبانيا.
وفيما تظل الأسئلة معلّقة في سماء الجارة الشمالية: هل هذه بداية تصحيح تاريخي متدرّج؟ أم مجرّد مناورة دبلوماسية متردّدة لا تقوى على الاعتراف بما يجب أن يُقال صراحةً: إن زمن الأعلام على الصخور قد انتهى… وإن الجغرافيا لا تُستعمر بلا خجل إلى الأبد!
وبين صخور الحسيمة الغالية على قلوب المغاربة ومليلية العزيزة يسطع الوطن عاليًا لا يبالي بشطحات شرذمة قليلة محسوبة على رؤوس الأصابع، لفظتها حتى عائلاتها بعدما باعت كرامتها مقابل براميل سوناطراك وشعارات مهترئة لا تصمد أمام موجة من بحر الريف. فلن نحتاج إلى لغة «برايل» خاصّة بالمكفوفين وضعاف البصيرة كي نُري من لا يريد أن يرى: إن الأرض تعرف أصحابها، والجغرافيا أصدق من خيانات المؤقتين.
وهكذا يبقى الوطن أكبر من كل ألاعيب المزايدين، وأسمى من أن يُختزل في شعارات جوفاء يلوّح بها من يريد أكل الثوم بفم أبناء مليلية الأبية. سيظل المغاربة، داخل مليلية وخارجها، صخرةً صلدةً تتحطّم عليها مؤامرات المتربّصين، لأن الوحدة الوطنية ليست شعارًا يُستعار عند الحاجة، بل شرفٌ يُدافع عنه برجولة وإيمان لا يلين. فليمضِ أعداء الوطن في نباحهم، ولتبقَ مليلية في قلب كل مغربي عنوانًا لصمود لا يُباع ولا يُشترى.
01/08/2025