يشهد دوار إشمرارن، بجماعة أمجّاو في إقليم الدريوش، أزمة غير مسبوقة في النزاعات العقارية، حيث تتشابك القداسة والتراث مع الجشع والطمع البشري. فقد تحولت أراضٍ شاسعة تزيد مساحتها على 400 هكتار، يُفترض أنها ممتلكات القديس الشهير سيدي عيسى، المتخصص في الطب النفسي التقليدي، إلى هدف للاستيلاء والهيمنة العقارية، في ظل فضائح وانتهاكات متكررة منذ إنشاء ميناء الناظور غرب المتوسط.
سيدي عيسى، شأنه شأن جميع الأولياء، لم يختَر مكانًا عبثيًا لاستقراره؛ فقد اختار تلة عالية تطل على البحر الأبيض المتوسط، لتصبح ضريحه نافذة مفتوحة على السماء والبحر الممتد بلا حدود. وعلى بعد ثلاثة إلى أربعة كيلومترات تقريبًا، يختبئ ميناء الناظور خلف منطقتي “سمّار” و”إمهياثن”، ما يجعل الموقع مزيجًا فريدًا بين القداسة والجغرافيا الاستراتيجية، ويزيد من جاذبيته أمام محاولات الاستيلاء الحديثة.
ويشير مصطفى العادك، أستاذ باحث بجامعة محمد الأول بوجدة وسليل المنطقة، عبر تدوينة وتحليل مميز، إلى أن تأثير الأولياء لا يتوقف عند الموت، بل يبقى حاضرًا رمزيًا في النفوس والمجتمعات المحلية. يقول العادك: “حتى حين ينهار المكان مادياً، تبقى قوة القديس رمزية، قادرة على التأثير في السلوكيات والتصرفات البشرية، سواء كانت صدقات بسيطة أو أطماع عقارية”، مضيفًا: “هذا الإرث الرمزي يدفع بعض الأفراد لاستغلاله لتحويل القداسة إلى ربح مادي”.
اليوم، يظل قبر سيدي عيسى مغطى بغطاء أبيض يذكّر الجميع بروحه الطاهرة، رغم أن منزله مهجور ونصف مُهدّم منذ سنوات طويلة. وتوضح الظاهرة بجلاء انتقال المجتمع من الصدقات الحيوانية التقليدية، مثل الدجاج والأرانب والماعز، وصدقات البحارة الصيادين (ثابحشت)، إلى ما يمكن تسميته “الصدقات العقارية”، التي تحمل ثروات هائلة وترافقها معاناة كبيرة للسكان المحليين.
ويشير العادك إلى أن مصير الريف يعكس “خطأ تاريخيًا استراتيجيًا”: الإصرار على تبني نوع واحد من الأولياء وعدم تنويع أو ابتكار أشكال جديدة للقداسة المحلية، ما جعل مناطق مثل إشملالن عرضة للاستغلال والفساد العقاري. ويختم قائلاً: “السؤال الكبير الذي يظل مطروحًا: أي نوع من القديسين كان يمكن أن يغيّر هذا المصير ويحدّ من الطمع البشري؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يوازن بين القداسة والتراث من جهة، والمصلحة الاقتصادية والجشع من جهة أخرى؟”
ومع كل هذا، يبدو أن القداسة في إشمرارن ليست محصنة ضد الطمع البشري، حتى لو حملت الأرواح هالة رمزية تذكّر بالمكان والزمان. وربما يبتسم التاريخ بصمت حين نرى الرقم 400 يجمع بين هكتارات أراضٍ مترامية الأطراف على قبر سيدي عيسى، وتقاطُع أحلام “البرنس موسى” في عرسه الأسطوري البالغ 400 مليون سنتيم، بين “عيسى وموسى”، كما تشير إحدى التدوينات.
أليست المفارقة مذهلة؟ بين هكتارات القداسة وملايين لحظات الفرح الزائف، تتقاطع الطموحات البشرية مع إرث الأولياء، وكأن القدر يمزح معنا، يربط بين الطين والسماء، بين الموتى والأحياء، ويتركنا نتساءل: هل نحن هنا لنحمي التراث، أم لنحصد صدقاتٍ عقارية؟
وفي النهاية، يظل درس إشمرارن صارخًا: لا شيء يوقف الجشع البشري، حتى لو وقف القديس على تلة يشرف على البحر، والسماء تتسع بلا حدود. فالغطاء الأبيض على قبره يذكّرنا بأن بعض المعارك الرمزية تستمر بعد الموت… وأحيانًا بطريقة تجعلنا نبتسم بمرارة، بين الحنين للقداسة وواقع الاستيلاء.