في تطوّر اقتصادي لافت، سجّلت هولندا خلال الربع الثالث من سنة 2025 تحوّلًا غير مسبوق في سوق الشغل، بعدما فاق عدد العاطلين عن العمل عدد الوظائف الشاغرة، في سابقة لم تعرفها البلاد منذ عام 2021.
فقد كشف المكتب المركزي للإحصاء الهولندي (CBS) أن عدد الوظائف الشاغرة انخفض بنحو 2000 وظيفة ليبلغ 387 ألف منصب، في حين ارتفع عدد العاطلين عن العمل بـ 13 ألف شخص ليصل إلى 399 ألفًا، أي ما يعادل 3.9٪ من إجمالي القوى العاملة.
ورغم بقاء عدد المناصب المتاحة مرتفعًا نسبيًا، فإن هذا التغير الدقيق في التوازن يُنذر بتحوّل أعمق في البنية الاقتصادية والاجتماعية الهولندية، التي كانت تُعدّ حتى وقت قريب نموذجًا في استقرار سوق العمل الأوروبي.
يقول بيتر هاين فان مولّيغن، كبير الاقتصاديين في المكتب المركزي للإحصاء، إن سوق العمل الهولندي “بلغ مرحلة الإشباع”، موضحًا أن الشركات بدأت تُقلّص عروض التوظيف لاقتناعها بأن “المتقدمين المناسبين لم يعودوا متوفرين”.
ويضيف: “كل من يستطيع ويودّ العمل، يعمل بالفعل، لكننا الآن نواجه حدودًا طبيعية في طاقة التشغيل”.
ويرجع جزء من ارتفاع البطالة إلى عودة فئات غابت طويلًا عن سوق العمل، من كبار السن أو النساء أو المهاجرين الجدد، والذين يفتقر كثير منهم إلى الخبرة أو المؤهلات المطلوبة في القطاعات الحديثة.
ويحذّر الخبراء من أن استمرار هذا الاتجاه قد يضغط على النمو الاقتصادي، خصوصًا في ظل اعتماد هولندا الكبير على العاملين بدوام جزئي، وهو ما يجعل رفع إنتاجية العمل أولوية وطنية.
ويؤكد فان مولّيغن أن “المرحلة المقبلة تتطلب تشجيع العاملين بدوام جزئي على زيادة ساعات عملهم، وتحفيز الشركات على الاستثمار في الكفاءة بدل الاكتفاء بالعدد”.
من جهته، أوضح ستان سنايدر، مدير موقع “Indeed Benelux”، أن التراجع في عدد الوظائف الشاغرة مستمر “لكن بوتيرة تدريجية”، مشيرًا إلى أن الانخفاض يتركز أساسًا في القطاعات المكتبية والرقمية مثل التسويق والمصارف، مقابل نقصٍ حاد في قطاعات البناء والتمريض التي ما تزال تبحث عن أيدٍ عاملة مؤهلة.
هذا التحول في سوق العمل الهولندي لا يمرّ دون أثر على الجالية المغربية، التي تمثل إحدى أهم القوى العاملة المهاجرة في البلاد، خصوصًا في قطاعات الخدمات والنقل والبناء والرعاية الاجتماعية.
ففي الوقت الذي تتقلص فيه الفرص في المكاتب والمؤسسات الكبرى، يظل المغاربة أكثر حضورًا في المهن اليدوية والميدانية، ما يمنحهم استقرارًا نسبيًا، لكنه لا يُعفيهم من ضغوط غلاء المعيشة وتزايد المنافسة على المناصب المحدودة.
كثير من الشباب المغاربة المولودين في هولندا يجدون أنفسهم اليوم أمام سوقٍ أكثر صرامة من أي وقت مضى، حيث لا تكفي الشهادة أو اللغة وحدها، بل أصبحت الكفاءة التقنية والتخصص شرطًا أساسيًا للولوج إلى سوق العمل الحديث.
ومع تراجع فرص التوظيف الجديد، يخشى المراقبون أن يتزايد إحساس الإقصاء لدى بعض فئات الجالية، خصوصًا في المدن الكبرى مثل روتردام وأوتريخت وأمستردام.
يُعيد هذا الوضع طرح سؤال التوازن بين فرص الشغل وجودتها في الاقتصادات الأوروبية، ويكشف أن الوفرة قد تتحول إلى عبء إذا لم ترافقها سياسات إدماج وتكوين فعّالة.
أما بالنسبة للمغرب، فالتجربة الهولندية تذكيرٌ بأن تأهيل الإنسان أهم من خلق المنصب، وأن الكفاءة والتكوين المستمر هما الضمان الحقيقي في زمن تتقلّب فيه الأسواق وتضيق فرص الاستقرار.
فمن أمستردام إلى الناظور، ومن روتردام إلى طنجة، يبقى التحدي واحدًا: كيف نحافظ على كرامة العامل حين تتبدّل موازين السوق؟











