kawalisrif@hotmail.com

الجهوية الأمنية… الجيل الجديد لبرامج التنمية يدفن النموذج التنموي الجديد، لتحيي هيمنة الداخلية على المشهد السياسي

الجهوية الأمنية… الجيل الجديد لبرامج التنمية يدفن النموذج التنموي الجديد، لتحيي هيمنة الداخلية على المشهد السياسي

لم تكن الجهوية في المغرب مجرد هندسة إدارية، بل اختيرت لتكون مدخلًا لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجال، ومناسبة لنقل جزء من السلطة والقرار إلى الجهات بما يتيح إنتاج تنمية أكثر عدالة وفاعلية، لقد كان الرهان أن تتحول الجماعات الترابية إلى مؤسسات سياسية تملك المبادرة، وتحدد أولوياتها، وتدبر مواردها، بينما يمارس المركز وظيفة الرقابة والتقويم، بما يوازن بين وحدة الدولة وتعدد مجالاتها، غير أن هذا المشروع الذي بدا واعدًا في لحظته التأسيسية، انحرف تدريجيًا نحو منطق مختلف تمامًا، حيث طغى الهاجس الأمني على الرؤية التنموية، وتقدمت الوصاية الناعمة على منطق التفويض، وكفاءة المعين على ضعف المنتخب، فعادت وزارة الداخلية لتحتل موقع الفاعل الأول في التنمية، ليس بالأسلوب التقليدي المباشر، بل عبر شبكة محكمة من البرامج الترابية المندمجة التي تتحكم في التمويل، والاختصاص، والقرار.

هذا الانزياح لم يكن عرضيًا، بل جاء نتيجة تصور جديد للدولة يرى أن الاستقرار يُصان عبر ضبط المجال أكثر مما يُبنى عبر تقوية مؤسساته المنتخبة، وهكذا، تحولت الجهوية من وعد سياسي إلى تقنية تدبير، ومن أفق للامركزية إلى أداة لإعادة تنظيم المركزية، حيث صارت القرارات الكبرى تُصنع في مكاتب الولاة ولجان التنسيق، ثم تُعرض على المجالس المنتخبة للاستئناس أو للمصادقة الشكلية، دون أن تكون لها الكلمة الحاسمة في رسم التوجهات التنموية أو تقييم السياسات.

هكذا بدأت تنشأ معالم الجهوية الأمنية، حيث تُحافَظ على الشكل الديمقراطي للمجالس لكن تُسحب منها أدوات السلطة، جهة بلا قدرة على المبادرة ليست مؤسسة سياسية، ومجلس لا يملك القرار لا يمكنه ممارسة الرقابة أو المحاسبة، وفضاء تُحدد أولوياته من فوق لا يمكنه إنتاج تنمية من داخل مجتمعه، إن ما يحدث اليوم ليس جهوية بالمفهوم الذي يحدد توازنًا بين المركز والمجال، بل جهوية تُدار بمنطق تنفيذي مركزي يجعل الوالي محور التنسيق الفعلي وصاحب القرار النهائي دون مسؤولية انتخابية أو محاسبة سياسية، وهذا ما يفرغ الديمقراطية المحلية من مضمونها ويجعل السياسة الترابية مجرد واجهة لإقرار خيارات جاهزة، ومحاسبة المنتخب في حال فشلها.

هذه الوضعية ستنتج وأنتجت معادلة مشوهة في تدبير الشأن العام، حيث يجد المواطن نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، مؤسسات منتخبة ضعيفة ومخترقة بالريع والزبونية والفساد، أو مؤسسات معينة فعالة لكنها خارج المحاسبة، ومع التراكم، صار هذا التقابل يُقدَّم كأنه قدر محتوم علينا، إما ديمقراطية بلا فعالية، أو فعالية بلا ديمقراطية… لكن الحقيقة أن هذا النمط ليس قدرًا، بل نتيجة تصور اختزل الشرعية في الانتخابات، والفعالية في التعيين، وكأننا أمام مسارين متعارضين لا يلتقيان، بينما أزمة الدولة اليوم ليست في الأشخاص بدوجة أساسية بل في بنية القرار نفسها، في غياب التوازن بين السلطة والمساءلة، وفي استمرار الاعتقاد بأن التنمية تُدار تقنيًا أكثر مما تُبنى سياسيًا.

لكن…هناك خيار ثالث وهو ما تحتاجه البلاد في إعتقادي، خيار لا يقوم على نفي المنتخبين أو تعطيل الإدارة، بل على إعادة بناء عقل دولة جديد يربط بين الشرعية والكفاءة، بين المشاركة والفعالية، خيار يجعل المنتخبين مسؤولين عن وضع السياسات ورسم الاتجاهات العامة، ويجعل الإدارة مسؤولة عن المواكبة والمراقبة، داخل منظومة من الشفافية والمحاسبة المتبادلة. فالديمقراطية ليست طقسًا انتخابيًا متقطعًا كل خمس أو ستة سنوات، بل ممارسة يومية تبني الثقة بين الدولة ومواطنيها، والتنمية ليست برامج ومشاريع، بل علاقة متوازنة بين من يقرر ومن يحاسب… وفي هذا الأفق، يمكن أن تتحول الجماعات الترابية إلى مؤسسة سياسية حقيقية، لا إلى ملحق إداري، وتصبح التنمية شأنًا جماعيًا، لا وظيفة تقنية تحت رقابة جهاز واحد مهما كانت قدرته وإمكانياته.

إن الاصلاح في المغرب لن ينجح عبر مزيد من المركزية المقنعة ولا عبر مجالس بلا كفاءة وبلا سلطة، بل بإعادة الاعتبار لفكرة الجهوية كأداة لإعادة توزيع السلطة، وبناء نموذج تنموي يؤمن بأن الثقة تُكتسب بالمشاركة، وأن الفعالية لا تلغي المحاسبة… الرهان اليوم ليس من يحكم، بل كيف يحكم، وبأي منطق تُدار العلاقة بين المركز والمجال.

فبين فاعلين منتخبين فقدوا سلطتهم، وفاعلين معينين لا تُراقَب سلطتهم، هناك طريق ثالث يمكن أن يفتح أفقًا جديدًا، دولة قوية بمؤسساتها المنتخبة وبإدارتها، لا بإحداهما ضد الأخرى، وجهوية قادرة على الفعل، لا جهوية مصممة للضبط، ونموذج تنموي مبني على المشاركة والشفافية، لا على التحكم ولو بغاية تنموي، هذا الطريق هو وحده القادر على إعادة الاعتبار للمواطن كفاعل لا كمتلقّ، وللمجال كرافعة للتنمية لا كفضاء ضبط، وللمؤسسات كأدوات لإنتاج التوازن، لا كواجهات لإنتاج القرار…وأما استمرار الوضع كما هو اليوم، فمعناه تكريس جهوية بلا روح، وتنمية بلا ديمقراطية، ودولة بلا توازنات، وهو ما لا يمكن أن يصنع مستقبلًا يليق بالمغاربة ملكا وشعبا.

مرتضى الأندلسي
‎مرصد الشباب لتتبع وتقييم السياسات العمومية

16/11/2025

مقالات خاصة

Related Posts