بين الاستعداد والارتجال، وبين منطق التدبير الحديث واستلهام “بطولات” الحرب العالمية الثانية، وجد إقليم الدريوش نفسه مرة أخرى وجهاً لوجه أمام شبح الفيضانات، لكن هذه المرة بأسلحة لا ترقى حتى لمواجهة بركة ماء، فكيف بواد كرت العملاق الذي اشتهر محلياً بأنه “يأتي على الأخضر واليابس”؟
في إطار الاستعدادات المعلنة لمواجهة الفيضانات وتداعياتها، انتقل عامل إقليم الدريوش، مرفوقاً بعدد من المصالح الخارجية، أول أمس ، إلى منطقة بنطيب، وعلى ضفاف واد كرت تحديداً، في زيارة قُدّمت على أنها ميدانية واستباقية. غير أن ما رافقها من مقترحات وتصورات سرعان ما حوّلها، في أعين المتتبعين، إلى مشهد عبثي يختزل أزمة التدبير أكثر مما يعالجها.
وفي فيديو متداول على نطاق واسع، ظهر عامل إقليم الدريوش وهو يتحدث بثقة لافتة عن “القصف”، ليس قصفاً عسكرياً بطائرات أو مدفعية، بل قصفاً من نوع خاص… قصف واد كرت حين يثور، وقصف الواقع حين يُدار بعقلية مرتجلة. تصريح التقطه الشارع المحلي بسرعة، لا لأنه مطمئن، بل لأنه اختصر وضع إقليم يُواجه أخطر الكوارث الطبيعية بمنطق الاستعارة، وبأدوات تصلح لساحات المعارك الورقية لا لسيول حقيقية لا ترحم.
وبين “قصف” واد كرت و”قصف” المنطق، دخل النقاش العمومي مرحلة جديدة، حيث لم يعد الخوف من الفيضان وحده، بل من طريقة التفكير التي تتعامل معه وكأنه تمرين نظري أو حكاية من كتب التاريخ العسكري.
وخلال معاينته للوضع، اقترح العامل الاستعانة بالأكياس الرملية على ضفاف الوادي الضخم ، كحلّ وقائي لصد السيول المحتملة. اقتراح أثار الاستغراب، بل والسخرية، خاصة أن واد كرت ليس مجرد مجرى مائي عادي، بل تاريخ طويل من الفيضانات العنيفة التي لا تعترف بالأكياس ولا بالحواجز الهشة.
مسؤول ببنطيب، وفي لحظة واقعية نادرة، تدخل ليؤكد استحالة هذا الحل بفعل قوة السيول، غير أن العامل، وبإصرار لافت، اختار استلهام تجربة الحرب العالمية الثانية، معتبراً ( حسب تعبيره ) أن الأكياس الرملية “تتصدّى حتى لقصف الدبابات”! وكأن واد كرت دبابة عابرة، أو أن الإقليم يعيش سيناريو فيلم حربي رديء الإخراج.
الدريوش، التي تحتاج إلى تنمية شاملة وإلى تغيير جذري في عقلية التدبير، لا إلى استعارات تاريخية في غير محلها، تبدو اليوم رهينة قرارات مرتجلة تكشف محدودية التجربة وغياب الحنكة في التعاطي مع ملفات حساسة. صحيح أن عامل الإقليم يُعرف بنزاهته، غير أن النزاهة وحدها لا تكفي حين يسقط المسؤول في الوحل قبل قدوم السيول، سياسياً وتدبيرياً.
الأخطر من ذلك، أن مفاتيح التسيير والتدبير في الإقليم، بحسب فاعلين محليين، باتت عملياً في يد الكاتب العام، المتحكم في كل شيء، بينما تحوّل عامل الإقليم إلى مجرد واجهة في قبضة بعض السلطويين، في مشهد يعكس خللاً بنيوياً في هرم السلطة المحلية.
سنة 2008 ليست ببعيدة عن ذاكرة الإقليم. يومها عاش الدريوش مأساة حقيقية إثر فيضان واد كرت، خلّف أزيد من ست وفيات وخسائر مادية جسيمة. أكثر من عقد ونصف مرّ، لكن الدروس ظلت حبيسة التقارير، ولم تتحول إلى سياسات وقائية حقيقية على الأرض.
اليوم، ومع الإنذارات الجوية المتكررة، تخرج إلى الواجهة تدابير يصفها المواطنون بأنها غير مجدية، بل وغير صالحة حتى لصد الرياح، فكيف بمياه هائجة لا ترحم؟
ويبقى السؤال المؤلم: هل ننتظر فاجعة جديدة لنعلن الحداد ونُشكّل لجان التحقيق؟ أم أن منطق التدبير الاستباقي الفعّال لم يجد بعد مكانه في قاموس بعض المسؤولين؟
سكان الأحياء المجاورة لواد كرت يعيشون قلقاً مشروعاً، لأن الحق في الأمن والسلامة ليس امتيازاً، بل حقاً دستورياً. أما الاكتفاء بالأكياس الرملية والخطابات المطمئنة، فلن يوقف سيلاً… ولن يعفي أحداً من المسؤولية حين تقع الكارثة.
في النهاية، قد لا تغرق الأكياس الرملية، وقد تصمد نظرياً ، أمام “قصف دبابات” الخرب العالمية الثانية، كما قيل، لكن المؤكد أن ما يغرق فعلاً هو منطق التدبير، وتغرق معه ثقة الساكنة في وعود لا تصمد أمام أول سيل.
واد كرت لا يحتاج إلى استعارة من الحرب العالمية الثانية، ولا إلى بطولات لغوية أمام الكاميرات، بل إلى هندسة حقيقية، وقرارات مبنية على العلم والتجربة، لا على التشبيه والمجاز. فالماء، عكس الخطاب، لا يقتنع، والسيول لا تشاهد الفيديوهات، ولا تعبأ بالتصريحات.
وإن كان لا بد من “قصف” حقيقي، فليكن قصفاً للارتجال، وللعقليات المتحجرة، ولمنطق تسليم مفاتيح الإقليم في الغرف المغلقة، بينما يُترك المواطن مكشوفاً على ضفاف الخطر.
21/12/2025