على مدى سنوات، عاش المغرب على وقع قصة صعود مثيرة لرجل يُدعى يوسف منضور، قدّم نفسه كجندي أمريكي سابق تحول إلى مستثمر ناجح يجمع بين روح الانضباط العسكري والطموح الصناعي الوطني. ببدلته الأنيقة وخطابه المتقن وصوره المتكررة إلى جانب مسؤولين حكوميين مغاربة، نسج منضور صورة “البطل العائد من أمريكا لخدمة بلده”، متحدثًا عن مشاريع ضخمة في طنجة والداخلة، وعن إطلاق أول مدرعة “مغربية مائة بالمائة”. هذه الرواية، المدعومة بظهور سياسي محسوب، جعلت منه رمزًا لقصص النجاح الجديدة التي تدمج بين الوطنية والاستثمار الصناعي.
غير أن هذه الصورة اللامعة بدأت تتصدع مع إعلان وزارة العدل الأمريكية، في شتنبر 2025، عن تسوية قضائية مع شركة “سانفورد فيدرال” المملوكة ليوسف منضور، بقيمة 3,1 ملايين دولار، على خلفية اتهامات بالتزوير والاحتيال في عقود فيدرالية. التحقيقات كشفت أن منضور لم يكن جنديًا كما زعم، بل موظفًا مدنيًا لدى الحرس الوطني الأمريكي بين 2003 و2007، ثم مستشارًا مدنيًا في العراق سنة 2008. رغم ذلك، استخدم صفة “المحارب القديم” للحصول على اعتماد رسمي يمكّنه من دخول منظومة العقود الفيدرالية الخاصة بالمحاربين القدامى (SDVOSB)، وهي امتيازات تمنح أولوية في الفوز بعقود حكومية تقدر بمليارات الدولارات. بهذه الحيلة، فتح لنفسه بابًا نحو سوق عمومية ضخمة، مستفيدًا من ثقة السلطات الأمريكية والمغربية على حد سواء.
ابتداءً من عام 2018، بدأ منضور بتأسيس شبكة معقدة من الشركات التي حملت أسماء مختلفة، مثل “تيلون فتران سيرفيسز”، “فار غوفيرنمنت”، “سافرو كورب”، و“I-2-I سولوشنز”، قبل أن يجمعها تحت مظلة واحدة تحمل اسم “فار غروب”. ورغم اختلاف الأسماء، فإن جميع هذه الكيانات كانت تُدار من العنوان نفسه في ولاية فيرجينيا، وبإدارة موحدة تخضع له شخصيًا. هذه الشركات حصدت أكثر من 400 عقد حكومي أمريكي، في مجالات متعددة تشمل الأمن، والخدمات اللوجستيكية، والصيانة، والتنظيف، وتكنولوجيا المعلومات. غير أن طبيعة هذه الشركات كانت أشبه بواجهات إدارية؛ إذ لم تكن تنفذ العقود بنفسها، بل تعتمد كليًا على المقاولين الفرعيين، ما أدى إلى تراكم الديون والنزاعات القانونية، واتهامات بتأخير الأجور ووقف دفع مستحقات الموردين.
ومن أجل تعزيز مصداقيته، تعاون منضور مع ضابط أمريكي حقيقي يُدعى ديفيد نيلسون فينتش، محارب قديم أُصيب أثناء خدمته، واستخدم اسمه لتقوية شرعية شركاته أمام السلطات الفيدرالية. هذا التعاون ساعده على تمرير عقود حساسة، خاصة في وزارة شؤون المحاربين القدامى، لكنه لم يكن كافيًا لإخفاء التلاعبات القانونية التي سرعان ما كشفتها التحقيقات. ومع انهيار منظومته في الولايات المتحدة، كانت قاعدة عملياته في المغرب – تحت اسم “سانفورد فيدرال أفريكا” بمدينة طنجة – تواصل عملها بصمت، مستفيدة من فريق يتراوح عدده بين 200 و500 موظف متخصص في إعداد ملفات العروض والعقود لصالح فروعه الأمريكية.
اليوم، وبعد انكشاف تفاصيل هذه الشبكة التي امتدت بين واشنطن وطنجة، يلتزم يوسف منضور الصمت ويتجنب الأضواء. الرجل الذي وعد بـ“صناعة دفاعية مغربية” أصبح رمزًا لقصة تضليل دولية جمعت بين الطموح الشخصي والمصالح السياسية والاقتصادية المتشابكة. ومع استمرار التحقيقات الأمريكية في تتبّع مسارات الأموال والعقود المشبوهة، تظل قضية يوسف منضور مثالًا حيًا على كيف يمكن لخطاب وطني مزيّف أن يخفي وراءه منظومة معقدة من الخداع المالي والاحتيال العابر للحدود.






