عندما يتحدَّث الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عن جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي أمام البَرلمان، ويَسْرُد المَعلومات المُتعَلِّقة بِها، لا يَترُك هَذهِ المُهِمَّة للنائب العام الذي يُتابِع التَّحقيقات الجِنائيّة وِفق الإجراءات المُتَّبعة، فإنّه يُريد بذلِك أن يُقَدِّم الطَّابَع السياسيّ عَن نظيره الجِنائيّ، ويُفسِح مَجالًا لنَفسِه للمُناورة، وكَسْبِ الوَقت على أمل التَّوصُّل إلى “صَفقَةٍ” مُرضِيَةٍ.
فكانَ لافِتًا أثناء سَردِه للوقائِع عِدَّة أُمور، أهمّها أنّه لم يَتطرَّق مُطلَقًا إلى الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد، وحَرَصَ على التَّأكيد على ثِقَتِه بالعاهِل السعوديّ الملك سلمان، والتَّلميحِ إلى دَورِ الأوّل كمُتَّهمٍ رَئيسيٍّ بالوُقوف خلف هَذهِ الجَريمة، وإصدارِ الأوامِر بتَنفيذِها، والتَّمييزِ بينَهُ وبينَ والِده، كما كَشَفَ الرئيس أردوغان في الخِطاب نَفسِه أنّه كانَت هُناك نيّة مُسبَقة تَكمُن خَلفَ هَذهِ الجَريمة، وشَدَّد على ضَرورَة مُحاكَمة المُتَّهَمين المُنَفِّذين وعددهم 18 شَخصًا أمام المَحاكِم التُّركيّة ..
ثَلاثَة مؤشرات تُؤكِّد في رأيِنا أنّ الرئيس أردوغان أدخَلَ تَعديلاتٍ على خِطابِه، وحذَفَ العَديد مِن الوقائِع الدَّامِغة، خاصَّةً حول جُثمان الصِّحافي الضحيّة ووضعيّته، وبَعضِ الأدلَّةِ الدَّامِغة التي جَرى العُثور عليها أثناء تَفتيشِ القُنصليّة ومَقرِّ القُنصُل مِن قِبَل المُحقِّقين الأتراك:
ـ الأوّل: وصول السيّدة جينا هسبل، رئيسَة جهاز المُخابرات المَركزيّة الأمريكيّة “سي آي إيه” إلى أنقرة قبل ساعاتٍ مِن إلقاءِ الرئيس أردوغان خِطابه، واعتَرف السيد مولود جاويش أوغلو للمَرَّةِ الأُولى أنّ بِلاده قدَّمت مَعلوماتً كافِيةً بالطُّرُق الرسميّة المُتَّبعةِ لحُلفائِها حول قضيّة الاغتيال، ومِن غَير المُستَبعد أن تكون السيدة هسبل طلَبت “التَّأنِّي” و”التَّريُّث” في كَشفِ الحَقائِق خاصَّةً في ظِل التَّطوُّر اللَّافِت في العَلاقات التركيّة الأمريكيّة بعد الإفراجِ عَن القِس برونسون.
ـ الثاني: المُكالَمة الهاتفيّة التي جَرَت بين الرئيس أردوغان ونَظيرِه الأمريكيّ دونالد ترامب قبل يَومٍ مِن الخِطاب.
ـ الثالث: تغيير الخِطاب السعوديّ تُجاه تركيا مِن العَداء المُطلَق إلى التَّودُّد الكامِل، فقد تحوّلت تركيا إلى دَولةٍ شَقيقةٍ، والرئيس أردوغان إلى زَعيمٍ إسلامِيٍّ مُحتَرمٍ، وكُل هذا بعد المُكالمة الهاتفيّة التي جَرَت بين العاهل السعوديّ والزعيم التركيّ قَبْلَ الخِطاب.
السيد أوغلو وزير الخارجيّة استَغَلَّ مُؤتَمره الصِّحافيّ الذي عَقَدَه مع نَظيرِه الفِلسطيني اليوم لكيّ يقول أنّ هُناك مَجموعةً مِن التَّساؤلات ما زالَت مَطروحَةً، تتَطَلَّب إيضاحًا أهمّها عَن الجِهة التي أصدَرَت أمْرًا بالقَتلِ، وعدم تقديم المَعلومات عَن مَكانِ جُثمان الضحيّة، والعَميل المَحليّ الذي تَسلَّمَها مَلفوفَةً في سَجَّادَة.
نَحنُ نَسأل بدَورِنا، إذا كانت السُّلطات التركيّة تَملُك الأدلّة الكافِية عن وُجودِ نيّةٍ مُسبَقَةٍ لاغتيال الخاشقجي، وأنّها قدَّمتها إلى السُّلطات السعوديّة وباشَرت الأخيرة التَّحقيق بشَأنِها وخاصَّةً الفَقَرة المُتعَلِّقة بوصولِ عَناصِر تابِعة للمُخابرات السعوديّة مُقَدَّمًا إلى أنقرة للتَّحضيرِ لعمليّة الاغتيال، فلماذا لم يَتِم اعتقال هؤلاء ومَنعِ حُدوث الجَريمة، خاصَّةً أنّهم ليسوا دِبلوماسيّين، وإنّما رجال أمن، اللَّهُمَّ إلا إذا كانَ الكشف عَن هَذهِ الأدلّة جاءَ بعد التَّنفيذ، وهذا أمْرٌ يتَطلَّبُ إثباتًا وتَوضيحات.
السعوديّة لن تُسَلِّم المُتَّهمين إلى تركيا، ولن تَسمَح بمُحاكَمتهم أمام محاكِم تُركيّة، فقد رفَضَت رَفضًا تامًّا تسليم المُتورِّطين بتَفجيرِ مَقرِّ القُوّات الأمريكيّة في الخُبر عام 1969، وهم سُعوديّون، قيل أنّهم ينْتَمون إلى حزب الله السعوديّ في حينِها، رُغم الضُّغوط الأمريكيّة الشَّرِسَة، ولا نَستبعِد أن تتم مُحاكَمتهم بتُهمَة الفَشَل في تَنفيذِ الجَريمة والتَّستُّر عليها، وإخفاءِ الأدلّة، وإصدارِ أحكامٍ بإعدامِهِم وتنفيذها فَوْرًا.
… عبد الباري عطوان …
27/10/2018