في مشهد اعتبره وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس بمثابة “لحظة مفصلية في التاريخ”، اتخذت لندن وبروكسل خطوة جديدة نحو طيّ صفحة من ملفات ما بعد البريكست، عبر التوصل إلى تفاهم غير مسبوق بخصوص جبل طارق. هذا الاتفاق، الذي جاء بعد سنوات من المفاوضات المتوترة، كسر الجمود الذي ظل يخيم على المعبر الحدودي بين الصخرة وإسبانيا، وفتح في الوقت ذاته الباب على مصراعيه لتأويلات تتجاوز حدوده الجغرافية نحو قضايا سيادية أخرى عالقة، من أبرزها ملف سبتة ومليلية.
الاتفاق، الذي أُعلن عنه يوم الخميس الماضي، يسعى في جوهره إلى إزالة الحواجز بين جبل طارق والأراضي الإسبانية، سواء فيما يتعلق بتنقل الأفراد أو حركة السلع، بحسب بيان مشترك خرج به الطرفان. وعلى الرغم من التعقيدات التاريخية والسياسية المحيطة بجبل طارق، فإن لهجة التصريحات جاءت موحدة بشكل لافت، مع إشادة من الجانبين بما اعتبروه خطوة نحو تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتحقيق مصالح السكان والفاعلين الاقتصاديين على حد سواء.
من بروكسل، وصف المفوض الأوروبي ماروس سيفكوفيتش التفاهم بـ”اللحظة التاريخية”، مبرزًا أن الاتفاق يعيد رسم طبيعة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بعد الطلاق السياسي الذي فرضه البريكست. أما وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، ففضّل الحديث بلغة الواقعية، معتبرا أن ما تحقق ليس أكثر من “حل عملي” يضع حدا لسنوات من الضبابية.
لكن في العمق، لا يبدو هذا الاتفاق محط إجماع بريطاني داخلي. أصوات محافظة ارتفعت لتحذر من كونه تنازلًا سياديًا لإسبانيا، يعيد للأذهان معاهدة أوتريخت عام 1713، حين تنازلت مدريد عن جبل طارق للندن. ورغم مرور أكثر من ثلاثة قرون، فإن الجرح السيادي لم يندمل بعد في الوعي الإسباني، كما أن البريطانيين أنفسهم غير مرتاحين لمعادلة تتيح لإسبانيا موطئ قدم في تسيير شؤون مستعمرة اختار سكانها بوضوح – وبنسبة تجاوزت 90% – الاصطفاف مع بريطانيا في قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي.
في خضم هذا الجدل، عادت للواجهة ملفات مشابهة ظلت لعقود أسيرة الجمود السياسي، وعلى رأسها سبتة ومليلية. فالسؤال الذي بدأ يُطرح في الكواليس السياسية والإعلامية: هل يمكن للمنطق التفاوضي الذي أنتج اتفاق جبل طارق أن يُستنسخ لحلّ قضايا استعمارية أخرى؟ خصوصًا في ظل متغيرات جيوسياسية جعلت بعض “المحرمات السيادية” قابلة لإعادة النظر.
تقارير إسبانية تحدّثت بالفعل عن سيناريوهات تقاسم محتمل للسيادة على سبتة ومليلية مع المغرب، في ضوء تحسّن العلاقات بين البلدين، وانخراطهما في أجندة تعاون إقليمي جديدة. غير أن محللين مغاربة رفضوا هذا الطرح جملة وتفصيلا، متمسكين بأن الرباط، وإن فتحت أبواب الحوار الدبلوماسي، فإنها لا ترى بديلاً عن السيادة الكاملة على المدينتين، بالنظر إلى رمزيتهما في الذاكرة الجماعية المغربية.
ومع ذلك، يدعو آخرون إلى قراءة أكثر براغماتية. فالمغرب، الذي راكم خبرة طويلة في ملف الصحراء، يدرك أن المعارك السيادية لا تُخاض فقط في العلن، ولا تُكسب بصرامة الشعارات، بل تتطلب نفسًا طويلاً واستثمارًا ذكيًا في موازين القوى الناعمة والصلبة على حد سواء.
يبقى أن اتفاق جبل طارق قد يُفهم، من زاوية أعمق، كعلامة على تحوّل مفهوم السيادة في العقل الأوروبي، من حق مطلق غير قابل للتجزيء، إلى مبدأ مرن قابل لإعادة التفاوض وفقًا لمصالح متبادلة. وإذا كان هذا التغيير قد فتح طريقًا غير متوقّع بين جبل طارق وإسبانيا، فربما يكون بداية لتحولات أخرى تلامس جذور قضايا ظلّت مجمدة تحت عنوان “الثوابت”، لكنها بدأت اليوم تُفكّك بلغة المصالح لا المشاعر.
وفي هذه القراءة، لا يبدو مستبعدًا أن يفتح هذا التفاهم الثنائي نافذة استراتيجية جديدة للمغرب، تعيد صياغة معادلة الوجود الإسباني في أراضيه المحتلة، ليس عبر المواجهة، بل عبر هندسة تدريجية قد تستلهم مقاربة جبل طارق، وتُطوّعها لخدمة تطلعات الرباط في استعادة سبتة ومليلية بأسلوب عصري، ودون ضجيج .
13/06/2025