بينما تُشعل أوروبا شموعَ الذكرى الأربعين لاتفاقية «شنغن» وتتغنّى بحرّيّة التنقّل واندماج القارة «من دون حواجز»، يكشفُ معرضٌ رقميّ جديدٌ على منصّة «Europeana» الوجهَ الآخر لهذا الاحتفاء: وجوهًا متعبةً لنساءٍ يعبرن الحدودَ كلَّ يومٍ – أو كُنّ يفعلن – قبل أن تتحوّل بطاقات التهنئة الأوروبية إلى بوّاباتٍ حديديّة.
قبل «شنغن»، كان الطريقُ من تطوان أو الناظور إلى سبتة المحتلّة مجرّدَ رحلةٍ قصيرةٍ بلا ختمِ جوازٍ ولا تأشيرة. أمّا اليوم، فصار المرورُ بين الضفّتَيْن مغامرةً بيروقراطيةً تختصرها كلمةٌ واحدة: «ممنوع». وفي قلب هذا المنع تقفُ مئاتُ العاملاتِ المغربياتِ اللواتي يجدن أنفسهنّ رهائنَ للوائح «الأمن الحدودي»، التي تعيد تعريفَ المسافةِ بين لقمةِ العيش والأسرة بعبارة: «اكسري خبزَكِ هنا أو اخسريه هناك».
هنا يبرز الفيلمُ القصير «الحدود» (Frontera) بتوقيع الباحثة والمخرجة إيرين غوتيريث. يوثّق الشريطُ يوميّاتِ ثلاثَ عشرةَ عاملةً منزليةً في سبتة السليبة: لا عقودَ رسميّة، لا ضمانًا اجتماعيًّا، لا إجازات… ولا حتى حقًّا في العودة إلى البيت حين يداهمهنّ الحنين. ومنذ جائحة كورونا، تحوّلت هؤلاء النساءُ إلى «عالقـاتٍ حدوديًّا»: إنْ غادرن خسرن العمل، وإنْ بقين خسرن الوطن.
ومن خلف العدسة، تلمِّح غوتيريث إلى أنّ الرقمَ الحقيقيَّ يتجاوز ما التقطته الكاميرا: نحو ثمانِمئةِ امرأةٍ يشتركن في المصير ذاته داخل سبتة. بعضُهنّ انتهت صلاحيةُ جوازات سفرهنّ خلال الجائحة، وبعضُهنّ لم يمتلكن جوازًا أصلًا، بعد أن وُلِدْنَ في هامش الهامش. كلُّ واحدةٍ منهنّ قصّةٌ مُؤجَّلة، بانتظارِ ختمٍ لا يأتي.
يربطُ المعرضُ الرقميّ بين سياسات «شنغن» وتحوّلِ دروب الهجرة: فمَن يُمنَع من عبورِ بضعةِ أمتارٍ على حدود سبتة، يُغامرُ بآلافِ الكيلومترات عبرَ الصحراء الكبرى، أو يركبُ أمواجَ الأطلسي نحو جزر الكناري. أمّا أوروبا – التي صارت «بلا حدود» داخليًّا – فتبني حدودًا أعلى وأعمقَ مع مَن هم خارجها.
اتفاقيةٌ تحرّر الملايين داخل ناديها، لكنّها تُقيِّد كلّ مَن يقفُ خارجه. والحصيلة؟ موسيقى الاحتفال في بروكسل تُغطّي على صرخات الأمهات العالقات خلف أسوار سبتة ومليلية المحتلّتَيْن. حرّيّةُ التنقّل؟ نعم، بشرط أن يكون جوازُك مختومًا بأوراقٍ من فئة اليورو!
لمن يرغب في زيارة «مسرح الحدود» كاملًا، يمكنه تصفّح المعرض الرقمي: «شنغن: أوروبا بلا حدود» عبر الرابط.
تتفاخر أوروبا بمنصّتها التي تضمّ ملايين الوثائق والصور والأفلام؛ أرشيفٌ يُذكّر بتاريخٍ حافلٍ بالتبادل الثقافي. لكن، هل يحفظُ الأرشيفُ صوتَ امرأةٍ لا تستطيع تسجيل اسمها في نظامٍ صحيّ لأنّها «غير موجودة قانونًا»؟!
ولأنّ الذكرى الأربعين تستحقّ التهاني، فلنرفع كؤوس الشمبانيا في بروكسل ابتهاجًا بـ«أوروبا بلا حدود»… على أن تبقى النساءُ المغربياتُ في سبتة ممتنّاتٍ لهذا الكرم، يتلوَّن صباحَ مساءَ داخل حدودٍ حديديّةٍ لا يراها المحتفلون إلا في نشرات الطقس!
20/06/2025