لهجتان مختلفتان تلك اللتان تحدث بهما لسان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في حواره مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، فالرجل الذي استنجد بسنة 1963 ليبرر استمرار بلاده في العداء للمغرب، المملكة المجاورة له، استعمل منطقا آخر حين كان يتحدث عن فرنسا، الدولة التي استعمرت بلده طيلة 132 عاما، عندما دعاها إلى تجاوز عقد الماضي.
وفي الحوار بدا تبون “ليِّناً” وهو يتحدث عن فرنسا، حين اعتبر أن على البلدين مسؤولية مشتركة وهي تجاوز عقد الماضي، قائلا “على فرنسا أن تتحرر من عقدة المُستعمِر، وعلى الجزائر أن تتحرر من عقدة المستعمَر”، بل لم يجرؤ حتى على مطالبة باريس بما روجت له سلطات بلاده لسنوات بخصوص الاعتذار عن جرائمها ضد الجزائريين وعن تجاربها النووية على أراضيهم.
وعندما سُئل عما إذا كانت بلاده ستُطالب فرنسا بالتعويض عن التجارب النووية، اكتفى بدعوتها إلى “تنظيف النفايات النووية” التي أحدثتها بمواقع التجارب والتكفل بالضحايا، بل ذهب أبعد من ذلك حين ألمح إلى رغبته في بناء علاقات أفضل مع باريس إلى جانب الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي قال عنه إنه “يمكن أن يمثل الجيل الجديد المنقذ للعلاقات بين البلدين”، مُعلنا عن زيارته لفرنسا العام المقبل.
لكن لهجة تبون مع المغرب كانت مختلفة تماما، فهو لا زال يرفض الإقرار بأن الصحراء جزء من المملكة، داعيا الأمم المتحدة إلى “إدانة ضمها” كما أدانت ضم روسيا لأراضي شرق أوكرانيا، ومشبها ذلك بضم إسرائيل لأراضي الجولان السوري، لكنه يعتبر أن هذا ليس السبب الوحيد للقطيعة، متحدثا عن “تراكم المشاكل منذ سنة 1963”.
وعاد تبون إلى حرب الرمال التي انهزم فيها جيش بلاده قبل حوالي 60 عاما، متحدثا عن “اعتداء القوات المغربية على جزء من الأراضي الجزائرية في أقصى الجنوب”، كل ذلك ليبرر اختيار بلاده قطع العلاقات والاستمرار في إغلاق الحدود مع جيرانها الغربيين، معتبرا أنها اختارت الانفصال حتى لا تدخل في الحرب، قبل أن يشدد على أن لا مكان للوساطات من أي دولة في هذا الموضوع.
ويبدو كلام تبون مثار تناقض كبير، فالرجل الذي عاد لحرب مرت عليها 6 عقود ليبرر حالة العداء للمغرب، أبدى استعدادا تاما لتجاوز خلافات الماضي مع البلد الذي ظل يحتل الجزائر من 1830 إلى غاية 1962، مخلفا مليونا ونصف المليون من الشهداء، وفق ما تؤكده السلطات الجزائرية نفسها، والتي لا زالت تحتفظ بجماجم المقاومين الجزائريين في متاحفها.
وبدا تبون، البالغ من العمر 77 عاما، والذي يتقاسم حكمه عمليا مع رئيس أركان الجيش السعيد شنقريحة، البالغ أيضا من العمر 77 عاما، كمن يعيش فعلا في عقد الماضي مع المغرب، وهي العقد التي يريد في المقابل أن ينهيها مع فرنسا، لكنه لم يعد يستطيع جلب أي مبررات جديدة حيث لا زال يستحضر ملف الصحراء وحرب الرمال كدليل على “وجاهة” خيار القطيعة.
وما يثير الملاحظة، هو أن تبون يستعمل هذه اللهجة مع بلد قال ملكها في خطاب العرش الأخير في 30 يوليوز الماضي “أشدد مرة أخرى بأن الحدود، التي تفرق بين الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، لن تكون أبدا حدودا تغلق أجواء التواصل والتفاهم بينهما، بل نريدها أن تكون جسورا تحمل بين يديها مستقبل المغرب والجزائر، وأن تعطي المثال للشعوب المغاربية الأخرى”.
وفي المقابل، فإنه يستعمل لهجة “التودد والتقرب” من البلد التي اتقر رئيسها الجزائر معتبرا أن لا وجود لأمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وأضاف خلال 18 شابا من أحفاد المقاتلين الجزائريين في أكتوبر من العام الماضي “كان هناك استعمار آخر، وأنا مندهش بقدرة تركيا على جعل الناس ينسون ماضيها الاستعماري على أراضيهم، في حين يركزون على فرنسا وكأنها كانت المستعمر الوحيد”، ليخلص إلى أن الجزائر تلصق مشاكلها في الفرنسيين.
ويُثير كلام تبون عن “تفادي الحرب” أيضا علامات استفهام، فالرئيس الجزائري وشريكه في السلطة رئيس أركان الجيش هما اللذان لوحا مرارا بالعودة إلى القتال، لدرجة أن تبون قال ذلك في حوار مع وسيلة فرنسية أخرى، ويتعلق الأمر بمجلة “لوبوان” في يونيو من سنة 2021، حين قال إن بلاده مستعدة “للانتقام في حال تعرضها لأي هجوم”، وحديثه عن أن “ميزان القوى ليس في صالح المغرب”.
كما أن هذا الكلام ينطوي على محاولة جديدة لإبعاد الجزائر نفسها عن مصدر التوتر المسلح، ألا وهو الصحراء، فتبون تفادى الحديث عن كون بلده هي المحتضن الفعلي لميليشيات جبهة “البوليساريو” الانفصالية وهي التي توفر لها التمويل والأسلحة، وهي أيضا التي تروج لوجود حرب في الصحراء منذ تدخل الجيش المغربي في الكركارات قبل أكثر من سنتين، الحرب التي يقول ساكن المرادية إنه “يحاول تفاديها”.
متابعة :
31/12/2022